أربع سنوات فقط!




إرادة ما تدفعني للتذكر, مَر الأن الخريفُ الخامس, بعد كل شيء تكونُ الذكريات سلوى أحيانًا تقتلُ القلوب في عقرِ دارها، و أمام ملاين من الحشود لا ينبتون ببنت شفه, ولا يتحركون قيدَ أنُملة , هذه هيّ الحقيقة هم يتشاركونَ نفس المصير , العيش على قلبيَّ ....ذكرياتي , على مبادئي التي توصم دومًا بالعظيمة لتزرع مطردًا عِملاقًا في جوفِ وتيني, و تنزع السعادة من أوكسجين أيامي, لتحقنني بمزيد من مضادات الألم لأنهُ حتى الألم ترف هذه الأيام!! . عادةً لا أتذكر كيفَ كان اللقاء الأول, ولا أين , وكيفَ تزرع المودة فيَّ للأشياء بكل تلك البساطة, إنَّ ما يبقى هوَ ذكرى الفراق الذي يتسلل منذُ جزء الثانية الأول في مواعدينا , يزرع بذوره هنا وهناك , حتى إذ ما أمطرت قلوبنا, و أستصلحت للزراعة, نبتت الأشواك تحولُ حتى الذكريات إلى مخروقاتٍ لا تستحق البيع في أردئ متاجر شراء الخردة!, وحتى إذا ما بحثتنا عن زاوية تحمينا شر هذا الصقيع, لم نجدها إلاّ حياة بالشوك, و الحيرة, والقلق , كل تلك المشاعر , كل تلك التساؤلات, وكل تِلك المثاليات التي نسمعها من أصدقائنا, وأحبائنا, و عوائلنا التي تثبت وبشكلٍ ما أن الحياة مُستمرة, و أنَّ هنالك بالتأكيد ما يستحق العيش لأجلها , وأن محطات هذه الحياة مؤلمة, يجعلني أرى أناس محنطين يتعاملونَ مع الأيام برتابة , بروتين مُمل , أرى فيهم ألات لا أكثر ولا أقل حتى الحب , والوفاء , صبحا ضمن مُعادة الآلة غير المُنتجة – فالموت يأتي , والحياة تنسحب من شقٍ في الباب مع خيطِ النور حينَ تغربُ الشمس, تغيرُ لونها كحرباء, وتجعل منها حالتها النفسية المتأزمة مسرحًا للمعارك الأزلية للتعصب, و للموت بشكلهِ الآخر , إنهُ الإنعزال , حيثُ ألم الوحدة الخالد الذي يجعل من الإنسان مومياءاً يؤدي الأعمال اليومية, يوقع في دفترِ الحضور, يوقع عنه في دفترِ الغياب , في كلِ لحظةٍ تمضي بهِ يذبل أكثر من ذي قبل, يعيش حيثُ العتمة جزء من الضوءِ , وحيثُ اللقمة جزء من كائن يقاسمه ذاتَ المصير!!! .
أربع سنوات فقط. لم يتغير أيُّ شيء ما زلتُ محملاً بكتلِ الأوجاع الصلبة, والتي أستأجرتُ في ذاتِ اليوم قبل الربيع الرابع من يفتتها لأتفاجئ أنهُ الآن جزءُّ من كيانها, أهيَّ سخريةُ الحلم ؟ أبت إلاّ البطشَ بي؟ أم هوَ دوري في الحياة كحاوٍ لألام العالمين ؟ - أنختارُ الفراق إمعانًا في الحاجة إلى وحدتنا الأزلية ؟ , أؤمن الإنسان كائن وحيد حينما تكونُ صفته الأكثر إجتماعية, هوَ كذلك, فالقلبُ موصد بالأقفال, والنوايا في سراديب مظلمة لا يصلها الضوء, و الحب وكل تلك القيم لم تعد تكفي لتنزع الوحدة من هذا الكيان, إنهُ الخط الفاصل بينَ الطفولة والشيخوخة!!, هنا لعبة من قطن, وهنا تجاعيدُ فيها عطش للحياة, فيها ألمُ الإدراك,وصوتُ لكلِ الأمنيات المتبخرة.لا أصومُ عن الآلام لحظة كيفَ إن فعلت تكونُ صدور العالمين ؟ أتحوي ألامهم ؟ و ما يحلُ بالموت الذي أستوطن العقل والفؤاد , ما يحلُ بهذا الضيفِ إن صمت, وكيفَ ستشرق الأمال في اللحظة القادمة. ما زلتُ ذاك المشتاق, بكل حرقته, بكل الوجوه الحزينة في داخلي, بكل ذاك الحُب الفسيح لا حد لنهايته, وبكل ذاك النقاء الذي أغرقُ به كل أشيائيّ في كل لحظة تأتي, لتتحول إلى كائنات تتنفس بالخياشيم برهة, بالأنوفِ أخرى, الأشياء البشرية هيّ كذلك أكثر عندما تبتعد عن بشريتها ! , هذا هو وجع القرن الواحد والعشرين, وهذا الحُب الذي لن يكفي للعيش حتى الثانية القادمة ! , وهذه إرادة تشتهي الوداع في لقاءٍ لا تنساهُ الذاكرة لتشقى كم ذاكرة تستطيع أن تستوعب كل تلك التفاصيل؟ بالتأكيد ذاكرة واحدة لا تكفي للعيش, كم من تبخر يصيب أجسادنا لنوقن أننا كائنات مائية ؟ - بالتأكيد أن تعرفنا حزن الماء, يدُ الماء تشلُ حضرة الليل يتأخر في طبورِ الإنتظار, وضجيج صامت على باب القطار, تذاكر تلتصقُ في حذاء سمين أضاعَ الطريق, وسكة تشتاقُ للقاء طرفها الآخر, يا إلهي كم نحتاج من السنوات لنفهم حاجتنا لفهمنا؟, كم نحتاج من السنوات لنشتاقنا؟, هل ستنبذنا أروحنا حين إذ ؟ , أم إن الأوان فات لنتسائل؟ أنفذَ الجواب؟ أم نفذنا مِنه؟, هكذا تمرُ السنوات لا نكتشف أنا هرمنا إلا في الوقت بدل الضائع, يؤلمنا ذلك فلا نحسُ بالأشياء تهرم من حولنا, ننطوي كما تنطوي أجسادنا عن البسيطة,لا تثمر, ربما أثمرت,لتولد السخرية من حزن الأخرين, إنها أنانية عابثة على التناقض,قلق من الواقع يحملُ إلى الإستهانة بأي واقعٍ آخر, وهكذا لا يفهمُ الإنسان بني جنسه, لا يُقدر مشاعرهم, لا يُحس بكم المعاناة الكبير الذي يَحملونه في قلوبهم, إن تجاهل ألم الأخرين جريمة, و الإستخفاف بها من أعظم الجرائم على مرِ التاريخ,وهذا ما يحدث يخلف وراءه ملاين من المنكسرين – مصدومين من الحياة, مصدومين من كم القسوة الهائل الذي يُهشم قاعدة أحلامهم لِتخرَ ركامًا, لا يُعرف له أي هوية بعد ذَلك,و لتتحول أيامهم إلى ورقة خريف تتلاعبُ به الرياح, تغيرُ خريطة جسده الشمس !, و تتحولُ عيناه إلى الرؤية بالأسود والأبيض.أحيانًا لا يتغير شيء ينتقم المتألم من الألم ليسببه لغيره,و أبقى بكل تلك الحيرة تطحنُ ضلوعي بالأسئلة , بالوجع مهما كانت أسبابه, الوقتُ يمضي سريعًا و ذاكرتي مُتصلبة تعيد ذات المشهد لألاف المرات,أهيّ لهفة؟ أم هوَ الوفاء لم أعد أدري تختلط المفاهيم والمبادئ فلا تكونُ إلا طُلسم عجيب لا يقرأهُ أي عراف, ولا يعرفهُ أي ساحر, هكذا تمضي السنوات تُحملني خلاصات الألام لتسكن روحي لغة – وأبجدية خالدة تعجزُ الحضارات على وئدها, و ها أنا أكتب لا أدري متى أنتهي من القلم, وكيف هو منته مني, لم أعد أعرف كيف سيولد السطر في اللحظة القادمة, وعلي أي المبادئ يصمد في وجه حروفي,لأن خلاصة كهذه تولد في داخلي تبعثُ بالهدوء ليكسوني سكينة و وقارا يناسبُ شكل حزني, كم يعرفُ قدري منذُ أول الحزينين. أؤمن لكل حزنٍ إشراقته,في تعامل الإنسان مع أشياءه , مع أشيائهم- في فهمه كم هذه الدنيا دنيئة ليتقاتل مع من تجمعه بإياهم عقيدة,لغة,دم,ومشاعر إنها أشياءُ تفهم لكن بعد أن تأخذ من قلوبنا الربيع,ومن أحلامنا أمنياتنا, هي تستهلكنا قبل أن نُحس أن أيامنا باتت معدودة, و أن أقدامنا لم تعد تعانق هذه الطريق, لكنها ترحل إلى حيثُ عالم آخر, نعرفُ فيه كيف كنا نحنُ حقًا, وكيف هو مفهوم حزني الذي تربع على عرش التفاصيل كثيرًا فَمت. أتى الصباحُ على غير الموعد, لم يجد عبق للمتسامرينَ على ولادة ضوءه لم يَجد أرق الحزن في عيني المحيط- ينخرُ جذع الورود يُذيب كل الحواجز,يصنعُ من الأحلام دواء لوجع الحياة ينقل الأجساد لوجع الموت قَبل الموت... تتضائلُ الأشياء- تضمحلُ طرقات المدينة في صوت أبواقها و في موسيقى ضجيجها مكتسحًا العقل مُعادلة آخرى ... لا تعرفُ سيدها أربع سنوات و أربع . يُخلق الموت في بذرة الحيَّاة، كلنا يعلم هذه الحقيقة لكننا وبشكلٍ ما نتناساها، ونسيرُ في طرق هذه الحياة بمبدأ الخالدين. مرت سنوات وسنوات وما زالت الذكرى مُعلقة في كل حدث وعلى ناصية كل يوم جديد، لا شيء آخر غير ذات الأفكار، و هي الأماكن التي لا تتغير مهما قررنا السفر ! . دوماً ما كانت المُدن تحوي مدناً أخرى في تفاصيلها، وذا ما يجعلها مأهولة للعيش. نظام سلوكنا الرتيب يراكم أحزاننا على ضفف الشعور، لقد صرنا نحزن لنفرح، ونحزن لنحزن، وكأن كل ما نحس به نابع من مآساتنا. إننا نقرر التوقف بعد إذ فقدنا مقدرتنا على السير، ونقرر أن نرى معالم أخرى بعد إذ أصبنا بالعمى، التفكير أصبح عملية إضطرارية، تتحفز لتنقذنا مما وصلنا إليه ولكن بعد إذ بترت هممنا، وبعد أن تصيبنا الشيخوخة و يعانقنا الخرَّف ! . لماذا نحس بقيمة الأشياء بعد فقدها؟ ونقوم بإجترار الماضي ونحزن بشدة على هذا الفقد -بينما لم نقدم أي شيء لمن فقدنا، أي زيف هذا الذي نعيشه، وأي عمل أحمق هذا نكرره مرة بعد أخرى، إنه التناقض - لم نفهم بعد ما هو الحب، ولا كيف نُحب لذا صرنا أقسى من الحجارة. إنهم على اتم الإستعداد ليسدو لك النصائح، لكنهم أبعد ما يكونون عند تقديم العون لك، فإن نجحتَ صار ذلك بفضلهم، و إن فشلتَ نقدوك أن لم تتبع طرقهم، وهم في حقيقتهم مساهم رئيس في التلوث الذي يدمرُ القلوب ويعكس موازينها. سنوات عديدة مرت عرفتُ فيها الصديق من العدو، ولمست معادن البشر فصار ظني يقين بهم والحزن القديم صارَ عملاً روتيناً، لم يعد يؤثر بي شيء وصار الفراق منهج يومي لي ، وصار الناس في مسيرتي مجرد أشياء غريبة لا أعرفها. سنوات مرت عدتُ لذاتي ولمست التوحد فيها، رسوخ كل ألمٍ عرفته البشرية أنا عاهل آلام العالمين . سنوات مرَّت وما زلتُ الكاتب الأول، كثيرة الوجوه التي رحلت، وكثيرة المعاني التي تبلدت، غيرَ أن صورته لا تزول ذاك اليوم الذي قررتُ فيه أن أمسك بالقلم و أبثَ حكاية القلب الذي ولد ليصيرَ علامة فارقة، ولذا صرتُ بهذه الوحدة أشد من دمج بالإنسانية، و أشد من عزلَ عن كل شيء آخر ليصيرَ هو . عندما تمر الأعوام تجعلنا أكثر رسوخاً فيما نحن فيه، الذين إختارو أن يصبحوا أدباء صاروا إلى ماساروا إليه، والذين إختاروا وجه أخرى أصبحوا على ما أرادوا، لقد إفترقنا في مرحلة اليقين ، و ألتقينا في مرحلة الشك لنتم مراحل النمو، إننا نعتقد أننا رحلنا بينما يطبع كل منا في لغته و سلوكه وما صار إليه من الآخر الذي نمى في روحه و تمكن لذلك الحد الذي لا يُحس به، إلى ذلك الحد الذي يقتفي فيه آثاره دون أن يدري ! . يا عاهل آلام العالمين ، ماضٍ في سكونك الأبدي ترعى كل حزن ، وتسكنُ القلب الأعظم خونة قادتهم طرقهم إليك، يا عاهلاً هز صمت الجواب، وسقى وحشة الأسئلة ! . إرادة ما تدفعني للتذكر، مرت سنوات كثر لا أحصيها، وتوقي القديم لكل حزن باقٍ يسقي العطشى ليخلصوا إلى تبديد أوجاعهم . إرادة ما تدفعني لمحو كل ما عرفتُ، لأعود الطفل الجاهل، الطفل الذي نسي ما كان وما صار

تعليقات