اعتذار للاعتذار








عندما أتذكر، أريدُ النسيان، هذا غيرُ مطمئن ؛ لأنه يعني أنْ لا نسى أبداً. تتلكأ الذاكرة أمام هذه التفاصيّل المُكررة . يولد كل حدثٍ على صورة ما مضى، تُجدد الجراح؛ لأنها أُهلت بكلِ ما يأتي . أُجرح ثم أجرح بالجرح القديم ، لا أدري إلى متى أحملُ معي هذه المؤن الثقيلة لتلقي الحياة بكفنها .. لقد حفظتُ كل شيءٍ عن ظهر قلب، لذا لم تعد تبهرني كلمات اعتذاراتك المُعلبة، والمُغلفة بقطعٍ من الذكرى على صورة عُلب فاخرة تُذكرني جراحي ..ما زلتُ كما أنا اقبلُ واستقبل مزيداً من هذه العبارات الغير صالحة للاستعمال أو القراءة حتى ..
إن قلبك الحجري ما زل يكتبُ، ليجعل من القلم سيفاً يقسمُ قلبي نصفين ، ويجعل من الكلمات وسائل لدس السُم في علاقتنا .. تقول لي بأنك قريب بينما تبتعد ، ويشدك وجودي بالأمكنة لتحيني بتحيتك المُعتادة " قريباً جداً سنلتقي " .  لقد فقد لسانك كل الجُمل فما عاد يقول إلا هذه الجملة الجارحة والخاليّة من المشاعر .. لقد استمرأت جرحي، لذا لا تمنعك نفسك من شهوة النظر إلي حزيناً كما أنا منذُ البدء . غير أني لم أحزن قط على أسبابٍ صغيرة كلقائك الذي لا يأتي ، ولا عن كذباتك الكثيرة ، ولا عن خذلانك الكبير ، كل ذا لا يعنيني ، فأنتَ الراحلُ مني عائد إلي  ؛ خلقت الطُرق من ضلعي ، فكل دربٍ يدلُ إلي ، وكل إشراقه جديدة تحملُ وجهي فأرى كل تفاصيل العالم.
مع مرور الوقت مللتُ الاعتذارات، في السابق كنتُ أراها سبباً للسعادة، فكم طار قلبي فرحاً إذا اكتشفت أنك توقفت عن الخطأ ، عن الكذب الصراح الذي تمارسهُ علي، لقد كنتُ أراك ذاتاً عظيمة ويصعبُ أن أتقبل فكرة أن تُخطأ بهذه الطريقة.. لكن الأمر تغيّر، لقد تكرر الاعتذار الواحد على الموضوع الواحد حتى غصت به اللغة . لا أصدقُ أن كل شيء يتكرر أمامي آلاف المرات و مع ذا أراهُ أمراً اعتيادياً ، لقد نسيتُ من أنا ، وذا جعلني أعتقد أن ما يفترض فعله يُحتم عليّ الصبر والصبر ، بينما الصبر على ما لا جدوى منه أمر فارغ لا يؤتي أي نتيجة .. هكذا نسيتُ أني بعيد وبدأتُ أمني نفسي " بالإصلاح " يدفعني قلبي الساذج على البقاء مُنتظراً أن تتحسن الأحوال لمصلحة الكثيرين لذا بقيت الأماكن مُعلقةً بي رغم أن قدمي لم تطأها مذ أمد . لطالما قال لي المقربون أن الناس لا تفهم هذا الشعور ، الرغبة باحتواء الأشياء، والتقرب لسدِ الهوات ، ومحو الفجوات .. الكل لا يعلم لذا لا يتسألون لما رغم كل الاهتمام أبدو بعيداً بينما الأماكن قريبة جداً ، لا يستطيعون رؤيتي هناك بينما أنا لصيق جداً جداً .. وهكذا تدل هذه الفكرة علي : ويصيرُ الانتماء فوق كل اعتبار لذا أصبر وأصبر .
لم أتقبل أبداً قراراك بالرحيل هكذا وبلا أسبابٍ مُقنعة، تتركُ المكان الذي حواك ، وتنصرف ، وكأني أملك ذاكرة اصطناعية لأنسى ، وكأني أملك " مقدرة " لأحولَ مجرى التاريخ، وأغيَّر في وجهِ الحدث .. الركبُ التي ثنيتَ لم تعد قادرةً على أن تفعل ، والكلمات التي قيلت ليست صامدة بما يكفي لتقال تضيع قبل أن تُنطق . لقد تحولتَ بينما لم تملك المقدرة على الرحيل ، وانصرفتَ حينما دُمجتَ بالمكان ، فلا تصيرُ بعد إذ أثراً بعد عين ، وإن لم ترغب .
يعتقد الناس أن الحيّاة بسيطة جداً تمكنهم من الرحيل بسهولة بلا أي تبعات، بينما ما زالوا يملكون ذاكرة ليتذكروا ، وما زالوا بذات الأماكن التي تنطقُ بكل ما كان ، إنهم يهربون منهم إليهم ، لذا تتحول فكرة الغيّاب إلى عملٍ ساذج يقدم عليه محدودي القوى العقلية. منذ مُدة لم أعد أقرأ اعتذاراتك لأنها بلغة أخرى تحثني على كُرهك، بينما أرفضُ ذلك ، أراك تغرسُ في قلبي بذور كرهك،  لكني أنزعها بيدي وأبدلها حُباً و وداً . عُلقت بيّ لم تستطع الانفكاك ، لذا ما زلت تُكرر ذات العبارات من جديد .. كل الوجوه الحزينة سكنت وجهي لذا تراني في كل يوم، لقد صرتُ الليل الذي يغطي السماء ، ويحجبُ عنها الضوء لتذوب تجاعيد المكان في يدي الكاتبة .. يدي التي تجعل من البكاء صورة محسوسة على الورق وبين الجمل .. وهذا أعظمه .
تمر السنين ، وتمتلئ الذاكرة بالكثير الذي يبقى لبقية العُمر؛ ليظهر في ما أفعل ، وتصيرُ لغتي مختلطة به حد الوشاية.
أتذكر؛ لأن لا حاضر يُشغل عن الماضي ، الماضي ضخم بما يكفي ليوجهَ إليه الأنظار بينما اليوم ضئيل جداً. يزيدني هذا الليل وحدةً حتى صرتُ أجهلني ، أتحسسُ يدي وأعرفُ أن أثر الجراح لا يزول مهما كنا قادرين على المسامحة والتغاضي ؛ ولو كان زائلاً ما بقيتُ كاتباً إلى هذا اليوم، ولو كان زائلاً ما صارت الكتابة هواءً أتنفسه ويبقيني رهيناً لقيد الحيّاة ..
أتذكرُ كم كانت اعتذاراتك دواءً يشفي الروح المُحبة ، واليوم أراها سُماً زعافاً ، ورغبة شديدة في الإيذاء " ما زاد عن حده قُلب لضده " لذا تصيرُ أسباب السعادة أسباباً للحزن ، وتصيرُ أسباب الحزن أسباباً للسعادة . ألهذا الحد تفيضُ التصرفات حد النقيض ، ألهذا الحد أنسى وأتناسى حتى فقدت ذاكرتي القدرة على ذلك. إنني مُعبئ بالآلام التي تصيرُ سكيناً يقتلني ويقتلُ الآخرين فيني على حدٍ سواء ..
لذا أُصبر نفسي بالكتابة.
عندما نقررُ الرحيل نحن نفعل ذلك بأجسادنا فقط ، بينما تفضح قصائدنا ونصوصنا توقاً كبيراً و ألماً عظيماً . نحن عندما نفكر نفكر ثم نقرر ذلك يعني أن هذا الحب صار بتلك المنزلة الكبيرة التي تجعل من حياتنا مُختلفة به و بدونه فنتخذ قراراً ربما قتلنا أو أحيانا من جديد وهذا يعني أنهُ رحيل كاذب نعيش كل تفاصيله على مدار الساعة . لذا لن أكون الجانب الضعيف الذي يرحل بينما سياطُ الماضي تُدمي مع كل ما يُذكر فضلاً عن الذاكرة .
لن أكون الطرف الذي يختار السفر للمجهول ، علِمتُ من ذاتي ما يكفيني ، وتركتُ " الماضي" كسببٍ يجعلني أهرعُ للكتابة من جديد .. لآلام العالمين .

يسحب الوقت بساطَ الترقب ، وتفشلُ كل القوانين التي تخضعني للقياس ، وينحرُ باختباره كل مُختبر يريدُ "معرفتي " . لأني هُنا بينما يبحثُ عني في أماكن لم توجد بعد . أطوي الذاكرة فتغطي وجه البسيطة ، وأمسحُ الكلمات التي كتبت لأراها حُرةً تلعبُ في حدائق المدينة، وتكسوا الطرقات جمالاً أخاذا .. أرى بعضيّ في المباني ، في وجوه من ألقى من الناس و أنكفأُ .

فخور بالوفاء الذي يحملهُ دمي، وينمو أكثر وأكثر مع كلِ موقفٍ جديد، وذا يُعالج كل شيء ويعيدُ الأمور لمجاريها ؛ أن لا أتحسر على فعلٍ قررتهُ ، وعلى كلمةٍ قُلتها فجعلتني " باقياً " هنا بينما لا يجبُ علي أن أكون ..

فخور بالماضي الذي علمني أن لكل حزن في العالم سبب وجيه ، وأن الأسباب المنطقية جاءت لتغلبَ شيء على آخر .

يحزنُ الناس على الناس ، و مع ذا : يقتلُ أولئك الناس بعضهم بعضاً ، ويمارسون أشد الأعمال وحشيةً لتدمير القلوب ، ومع ذا يسمون أناساً إلى اليوم ، وينتمون للإنسانية !!

جامد – بين اللقاءِ و وحشته
تتسامرُ " الأيام "
ويبلجُ وجه المدينة على وهمٍ جديد
يسكنني للحظة
أبحثُ عن وجهك الضائع في ذاكرتي
فلا أجد له أثراً .. هكذا تُعلق بي حد التهلكة 
وذا جوهر أبنثقُ منه " أخرى " . 






تعليقات