وجه الخطوة.




يعلقُ بخطوتي أثر قد سلف، لماذا أريدُ التذكر رغم قراري بالرحيّل، كل الذوات تغيرت، ونسيت أضواءُ المدينة أن تنطفئ رغماً عن الليل الذي تأخر كثيراً هذه المرة وكشفَ وجه الحياة الحزين. 
يا للسفر كيف يبقيني جزءاً من كل مكان غادرتهُ، ليسكنني، ثم يصير بضعة مني، ينطقُ باسمي ويبدي وجهه حزني. 
لم يتغير شيء قدر تغير كل شيء. أقتربُ شيئاً فشيئا فيكشفُ لي ما أنا فيه، ما رأيتهُ صارَ ماثلاً أمامي، إلا أن الحب يزداد ليغطي ذا الجانب ويظهرَ آخر يحملني للبقاء؛ ولأنطقَ بفضل كل فاضل ، ذا التغير يطالُ الصورة التي أرى أحياناً يبدلُ المعنى ويرفعه إلى مرتبةٍ عُليا إلا أن الحالَ في ذا الإطار باقٍ على ما هو؛ جوهر الهويات يبقى لذا: يرحلُ بعض من يخجل من رؤيتي له، ويعذبهُ ذلك كثيراً ، ذي ضريبة رؤيتي ذا المكان. 
ربما المحبة تجعلني أكررُ المضي نحو الذات؛ لذا لا أرى الآخر إلا صورته في قلبي، يذوبُ كل شيء : من هو، ما يصيرُ إليه، من أنا ، ويبقى الإنسان الذي يشعر ، يتعاطف فتبقى سمتهُ ظاهرةً ويبتدئ بالفكر . 
إن ما مضى كفيلُ بجعلي كاتباً أكثر من كل وقتٍ قد مضى، فالناسُ رغم اجتماعهم الدائم يعيشون بعزلة، لا يمكنهم أن يحسوا إلا بما دجنوا به، فصار ما يُحس مستنسخاً ، صارَ جمعياً كأي عقلٍ جعلَ مِنْهُ فرداً من القطيع.
لقد اخترت ما أنا عليه لذا أحتملُ كل ما يصير، الآخرون لا يفهمون أن الحب هو ما يملكنا الفهم بنا، وبما نحنُ فيه وعليه، لا أريدُ أن أكونَ جزءًا من نظامٍ ما، لا أريدُ أن أكونَ مادةً نظامية تقرر أن ذا ممنوع وذا مسموح به. الحبُ وحده يعمق فهمنا بالذات، وبفهم الذات يتجلى فهمُ الإنسان ما هوَ في المكان وما هو في الآخر القريب، في الآخر البعيد أيضاً. 
يظن الناس أن حياتهم الآلية وكأنهم مُعداتٍ في مصنع ما مُريحة جداً لذا: يقولون لي أنهم يشترون راحتهم ، ويسيرون إلى أي شيءٍ آخر، لأن الحب لن ينتهي، والحياة بالطبع لن تنتهي هكذا هم دوماً معلقين بالأشخاص حدَ التهلكة والضياع لذا: يتذكرون الأسماء ولا تعني لهم الصور الكاملة شيئاً، وتصير الذكريات محض أدواتٍ للتسلية ككرة الطائرة أو ألعاب الفديو . الذين يرحلون ويقولون أن العالم لن ينتهي ، يريدون الرحيل عن صورتهم في ذهن الآخر المُعلقين به، والقابع في كلِ ما يعبرُ عنه في الكرة الأرضية ؛ لكنهم يفشلون مراراً لا يبدو أن لديهم سبل أخرى يسلكوها إلا ما عرفوه من البداية أن يرحلوا بينما لا يفعلوا ذلك، أن يحبوا بينما يقولون أن الحب يستبدل كأي قطعةٍ من قطع الخردة، أن يؤمنوا بشيءٍ بينما يهجروه إلى مذهبٍ آخر بكل بساطة. إن ذا الضياع ما زال دالاً على الإنسان كيفَ علق بالمادة ونسي أن المادة فانية، وعلقَ بالسبب ونسي أن العقول لن تتفق عليها في كل حال ! . تسكنني الوجوه الصارخة بيَّ، المستنجدة، وذا ما علقني بالطريق، أن لا أتوقف عن المسير حتى أُدمي قلبي . أين الوجوه التي عبئت بها حتى صارت وجهي الذي تعرفه الكائنات، العاهل الذي ما زالَ منزلاً لآلام العالمين، رغمَ أن خطوات الذين قرروا المضي ما زالت مُدوية يتعرفُ به العالم على حزنِ قاطنيه. 
لقد عرفتُ أن حزني عندما أحب علامة تدلُ علي ، وأن يدي التي تصافح و تعلق بتربة الأرض تلمسُ جانباً من الذاكرة التي تجمع الكائنات لتعي حزنها، وأعي أنا أسبابه التي تسكنني . 
لم يتبقى شيء، قهوتي السوداء باردة، أستدعي النادلَ ليأخذها لكني أقررُ أخيراً أن أشربها باردة ؛ لأذوقَ طعم الأشياء عندما تفقدُ صفةً منها ؛ ولأبقى رغمَ كل ما يفقده الإنسان مع مرور الوقت أو لأن أعيننا صارت ترى الحقيقة أخيراً دونَ أي مُغبشات . 

أرتدي نظارتي، وأحملُ دفتري الذي عبء بحزنِ الأرض التي صارت مقهى أتوقفُ فيه لأكتبَ مرةً بعد مرة هذي المرارة التي سكنت قلبي؛ وعاشها الآخر فيه. وتبدأ الوجوه مرةً أخرى بالصراخ أكثر بيَّ الحزين الأكبر. كل ذا العالم يفهم شعوره بالألم، وشعور بعضه بالألم، الألم هو اللغة التي اتفقت عليها الكائنات بينما لم تتفق على شيء آخر. ويصيرُ دوري معلقاً بكل مسألة حزنٍ جديدة، و أتوشحُ ما أسموا إليه: عاهلاً لآلام العالمين .


   

تعليقات