أنظرُ
إلي في المرآة، وأرى الشوق الذي بعيني ليّ، لقد غبتُ طويلاً عن ذاتي. أفقدُ قدرتي على
تذكر أي شيء و أتأملني حتى أرى من سكن قلبي، يطلعُ من ضلعي، يلقي علي التحية، وأرى
الأحداث كيف تنتمي لجسدي، أرى كيف يبكي جسدي، كيف يحن، كيف تنتمي له الكائنات التي
أحبها. تكشفني المرآة، أيقنتُ الآن أنها أكثر ما يعرفني. يا ألله، توقفتُ كثيراً
ومرت ساعة الآن، دلني على ذاك هاتفي الذي يرن، لم يعلق بذهني شيء غير رجفة في قلبي،
أُحس معها بأن الأرض ترتجف، يبدو أني فقدتُ بعض توازني وكأني رجل فضاء يسبح، أُحس
بكتلةٍ في صدريّ ترتفع شيئاً فشيئاً، ويصعب علي أن أطأ الأرض. أسحبُ نفسي إلى أن
أرى وجهي فأعتقد وصولي للمكان الصحيح، شيدُ فيَّ، أحسسته بذاكرتيّ، ثم تحسسته
بيدي. أرفع عني كل المُتراكمات، أودعها للنسيان الذي تذكرت أخيراً أن بمقدوري
استخدامه ثم ألجه كضيفٍ في مُلكه. تشدني الضحكات المُتعالية، أذهب باتجاه الصوت
لأصلَ، أرى أصحاباً قد اجتمعوا: يتضاحكون، وتدمعُ أعينهم، يزدادون ضحكاً ويزدادون
بكاءً، لقد وجدوا سبيلاً سائغة للبكاء بلا أسباب، لم أنتبه لوجود الصامت بينهم،
يرقبُ أعينهم، ويسكنهُ حزن عميق، هذا أنا، العاهل الذي سكن القلوب النائحة، و وعى
حزنها أكثر من ذاته. لا يعرفُ أغلب الناس سبب أحزانهم لذا يبقون حزينين طويلاً جداً،
ومع تراكم الحياة، و عمق الأثر بالنفس، يظنون أنهم تغيروا لكن الذي تغير أن نفوسهم
صارت أعمق في حزنها لذا لا تلتفت لمشغلٍ عنه. نسيتُ أين أنا، ومع صمتي وتأملي
بدأتُ أرى النور المنعكس من النافذة، يضع خطاً رفيعاً على جلديّ؛ يصافحه، نتبادلُ
أطراف الصمت، وبخطواتي الثقيلة أقتربُ قليلاً قليلاً لأحتضن النافذة، أُلقي بيّ
عليها، و أدخل من باب قلبي لي في الغرفةِ الظلماء، ما زال النور يقترب أكثر و
أكثر، و أبتعدُ أنا رغم اقترابي إذ يعبرُ صدريّ، أراهُ ينسل بين ضلوعيّ، و يعبئ
رئتي التي تتنفسهُ، وتعيد تكراره لتضيء كل ما حولها. من خلفِ النافذة جموع غفيرة،
تتعدى سكان هذا الكوكب، و أعرفُ ببصيرتي أن ذا ما تبقى من الماضي، الألمُ الموروث،
الألم المنزوع من كائنات العالم، لجسدي العالم الذي لا حد له. رأسيّ المتثاقل يحثني
للذهاب لغرفة القهوة. أجلسُ على أريكتي الخضراء، و أتصفحُ الجريدة التي تحكي عنيّ،
ومع ذا أتجاهل ذلك وكأني أقرأ عن أي إنسانٍ آخر، و أفتش عن ذا المرء بين سطور
الجريدة، ألقاهُ، ثم أنسى من هو. الأخبارُ لا تختلف كثيراً عن بعضها، أقرأ ما في
صفحة الوفيات، و أجده بصفحة الولادات والتهاني. بعد هذه القراءة المُتفحصة أجد
الصحيفة وقد صارت خالية من كل خبرٍ و حِبر. يقدمُ لي أستاذ القهوة قهوتي المثلجة،
و أدعوه للجلوس فيجلس على كُرسي صغير كان مُخبئاً خلفَ الباب، وصار يمسحه برفقٍ
وكأنهُ أحد أبنائه، عرفت لمَ يبدو مُرتاحاً لهذا الحد، جاء بالكرسي وجلس وصرنا
نتحدثُ ونتحدث حتى صمتت، وراح يشكي لي، و أنا أتقبلُ و أقول زِد، وزد، وزد. يبكي،
ثم ينهض مُعتذراً بالأعمال، فاثنيه عن ذلك و أبدأ بالتحدث، لم أتوقف حتى علمتُ أني
استغرقت كثيراً فقد مرت ثلاث ساعات مذ تحدثتُ، ولم أنتهي بعد، سيل من الأفكار يجرف
ما أمامي فيفقد معالمه. كان هذا الأستاذ شاعراً، شغوف بالحب، يرى نفسه تتنقل بين
حقول الجمال، كانت نفسهُ مخضرةً كواحة، ومنسابة كجدول، و متفتحة كأزهار البرتقال،
غير أن هذا الربيع تبعهُ خريف لم يأتي في أوانه، تساقط شِعره كما يتساقطُ شعر
عجوز، وراحت أبياته تتهاوى أمام ناظره، وتتلاشى، كاد يجن، فيدهُ التي اعتادت
الكتابة صارت لا تجيد إلا صنع القهوة، لقد بقيّ ما ورثه، وتبخر ما اكتسبه في ليلةٍ
وضحاها. لم
يعلم أنه انتقل من مرحلةِ الشاعر، لمنتجٍ لشعراء، من ذا الذي يتذوق هذه القهوة ولا
يصبح شاعراً أو أديباً. أتنفسُ من رائحة كوبي الشعرَ الذي ظن أنهُ غاب، وأصبحت
أسمع أبياتٍ تروى في خاطري لم أقلها، لقد كانت قصائده المملؤة بالحزن، ساكنةً
قلبي. أحمل الأوراق التي على الطاولة، و أصافح المكان وأستاذ القهوة ثم أمضي، لقد
حان وقت الكتابة هذا اليوم . مذ زمن كنتُ أجيد الرسم، ثم نسيتُ الرسم، وصرت أكتب
ما أرسمه، ثم نسيت كتابة ما أرسمه وصرت أكتب بذاتيّ، بهويتي، ما أعرفه عن الذاكرة
وما تعرفه عنيّ، عن من أحببتُ. لقد ظننتُ أني وحيد مذ رحلتُ عن وطني، لكني كشفت عن
الوطن في جسدي، فلم أعد أُعاني غربةً، كيف لهذا الدم أن يُعاني الغربة، و قد كسى الكائنات
من نفسه، حتى التحمت بهِ هيّ بعض منه. كيف يجهلهُ الناس وقد امتدَ لحدٍ لم يصل له
أحد سواه. أعود لدمي، أرى أيُ وجهٍ وجهي، و أسمع عن لغتي، كنتُ عُمياناً والآن
أرى، كنتُ أمياً والآن أقرأُ عني، النسيان أحياناً دليل على التمكن من الفؤاد،
فهذا الالتصاق بطينته ينسي بعد التوحد بالذات، لم أنسى كل ما قرأته، و أنا الذي
ظننت أني نسيت، ولم أنسى من أحببتُ و أنا الذي ظننت بقلبيّ أنه كالحجر، فرأيتُ الأنهار
تتفجر منه وتسقي العطشى. أضع إذني على الطاولة لأعي حنينها للشجرة، و ألبسُ الكرسي
ردائي ليتوقفَ عن البكاء، هكذا أتوقفُ عن الكتابة و أكتبُ في آنٍ، أهتمُ بغير ما
أكتبه؛ لأجيد ما شرعتُ فيه. مذ أيام و أنا أحاول الكتابة غير أني لم أستطع كتابة
أي شيء، بذلك أعلمُ أني سأكتب أشياء أخرى، وأني وعيتُ بالذات أكثر، و أكثر؛ توقفي
وصول لضفةٍ أخرى لمحيط نفسيّ الجامحة. لقد اعتقدتُ طويلاً أني ألتقي بأحدهم
يومياً، أو أقل، لأعرفَ أني لم ألتقي أحداً آخر سواي مُذ ولدت، اشتراكي في حبي،
أتوسع، ويتوسع قلبي ليحوي آلام الكائنات. قال لي جزء مني، لقد صرتَ قاسياً بشكلٍ
ما، و أرى أدوارك تتناثرُ بعد هبتك الغاضبة. الهجرُ حمل للألم، كذا العقاب؛ عندما
أهجرُ ينسى من هجرت أقواله، أفعاله الحمقاء، لا أُحمله رؤية وجهي ليعذب، وعندما أُعاقب
تتطهر النفس من درنِ أخطائها فنعودُ أشد حباً لبعضنا، غير أني لا أنوي عودةً ما
نبضت بيّ السلالة، لن أبذلَ عطاءً لميت لا يفيدُ منه لذا اعتزلتُ اللقاء. أفصلُ
بعضيّ لنتبادل الكتابة بعض بالقلم وبعض بالفكر ثم أتأمل بينهما وهذي كتابة أخرى.
عاتقي الذي يحملُ أثقالاً عظيمة، بلا أي ثقل، وشعريّ الأبيض يشع بنورٍ يطرقُ بابي
يقوم بدور عصارتي الهاضمة ليوزع على جسدي، يرى الناسُ في وجهي بعض وجوههم، مكسياً
بحزنهم المُخفي، فيتراقصون أمامي، وراح أحدهم يقترب أكثر وأكثر ليعلقَ وجهه
بذاكرتي، لقد صارَ الكاشفُ مكشوفاً، بذا أمعنَ بالتوغل في نفسي فدفنَ في دروبها
كجهةٍ تدل، وكلغة تُحكى. أقتربُ من الباب أكثر، أمدُ يديّ، أضع سبابتي على مقبضه،
وأنزلها شيئاً فشيئاً حتى يفتح، وهو يتنهد، ويصيح، وأصابعي الباقية عليه، تحضنه
قدر ما تستطيع، يبكي لأنه يتغير، لقد خشي أن يجهل أحدنا الآخر مُذ نمى على الأرض
وحتى صارَ باباً، لا يعلمُ ما سيكونهُ المرّة القادمة. لا أعلمُ من الراحل أنا أم
المكان، لا أعلمُ أينا المكان وأينا القاطن فيه. يهطلُ
المطر عليّ و ما زلتُ سائراً، ينمو العشب أمامي، تنمو لغة العُشب لينادي باسمي صبح
مساء. عندما كنتُ صغيراً سمعتُ صوتاً ينطقُ بيدي، تلك كانت بداية الكتابة، وولادتي
على هذا الكوكب الصغير، هذا ما أوعاني اسمي، وعرفني من أنا. أقطعُ المسافات
الطويلة كل أسبوع بين مدينتين، لكني لم أسافر بعد، لأنهما شيدتا في نفسي فعلمتهما
أكثر من أيِ كائنٍ أعرفهُ، في كل أسبوع جديد تطول المسافة أكثر، أعرفُ كيف أبتعدُ
عن الماضي، وكيف انزع من حاضري الذي يستعد لحمل حقائبه، والرحيل كسائر الأشياء
التي تنتهي. أنتهي مني، أبترُ عني بعض الذكريات، ويبقى ما عرفته أولاً قبل كل
كائن. تغيبُ أسباب الحب، كذا أسباب البقاء لذا أشطره نصف يبقيني بالوجوه لتذكرني
أن ابتسم عندما يتوجب عليّ ذلك، ونصف أُبقيه للكائنات الجريحة لأسقيها من دمي
لتروا. أخلعُ عني الصبر، و أهدم الأماكن التي تذكرني، وأرسلُ بذكرياتي كشكولاته
وحلوى لبعض الأصناف البشرية لتتذوق حزنها، وتعي منزلها، وأي منقلبٍ يتقلبون. قلبي
المتناثر، يُجمع، أعلو كثيراً بعد هبوطي، أعودُ إلى موطني. أختنقُ لا أن الهواء
ينقص، أختنقُ لتناثر عقدٍ من الناس في صدري، ولآخرين يهبطون كزفيرٍ أبثهُ من رئتي
فيهبط للبسيطة. أطلقُ الأيدي التي حُبست فتكتبُ للناس من أنا إلا أني لم أعد ذاك
القارئ، لقد توقفتُ عنها، وصرتُ لا أقرأ غيريّ. تصيرُ المدن طريقاً يدل علي، تصيرُ
الطرق مُدناً تحيي ذكري، يبلُ الدمع وجهي بعد إذ طال غيابه، وتحكي بشرتي شوقاً
يجلبُ صفاءً ونورا، هذا ما يصنعه غيابي، أن يشيدني في كل شيء، ويفقدني الجميع، لا
يفقدون إلا أنفسهم، هم بعض مني، وأنا بعض منهم. أتذكرُ أسبابي الآن، لا أدري لماذا
تلاشت عندما قدمت، الآن تصير ذات الأسباب
التي قادت قدومي، أسباباً لانفكاكي من جسدي الذي نمى على أثر هذه الذكريات
المؤلمة، مضت سنين، تفهمتُ ذاتي أكثر من ذي قبل، أكتبُ وأنا الواثق بما أسطر، هذا
ما كنتهُ، وهذا ما كانه الآخرون فيني، لكن كل ذاك يزول، ويبقى الحُب لا يزول رغماً
عن كل خطأ. أترنم بقصيدةٍ لا أتذكرُ متى قلتها، نسيتُ اسمها بعد إذ توقفت عن
الترنم، ويسكنُ خاطري مشهد مهيب لاجتماع خلق كثير كانوا قلبي الذي يغني قصيدته حتى
يطوي الصبحُ ما كان، وتعود الأمور لمجاريها، أن لا تعود من جديد . أبلُ الليل
بدمعي الغفير، لأفقد قدرتي على البكاء، لا أبكي بعيني، ذاتي كلها تبكي. الذكريات
التي حُنطت تتلاعب بها عوامل التعرية، وكأن شيئاً لم يكن، أتركُ فسحةً للتضاحك ،
واللعب. جاء الصبح متأخراً، لم يبقى أحد من سكان المدينة الباردة، غير فانوس صغير
أضاءته يدُ شحاذٍ في زقاق، كان أشد فخراً بما هو، وكان يُعلم الآدميين أن لا
يخجلوا من ذواتهم، يديه المُتجعدة عليها أثرُ الشمس، فالعلاقة بينهما وطيدة إذ يبتدئ
عمله مُذ الظهيرة إلى الليل، ثم يتكأ على جدارِ المسجد الذي على الشارع العام
للمدينة بعد صلاة المغرب وقليلاً بعد العشاء ليلقي حِكمه على المارة، والباعة الذين
اعتادوا المكان فلم ينتقلوا عنه، لقد كان أفصح موعظة من كل سكان الحي، لكنهُ أكثر
الناس علماً أن حديثه ليس بذي جدوى إلا إضحاك الآخرين الذين اعتقدوا أنه مجنون ليس
إلا، لقد كان يكسبُ كثيراً من مهنته هذه، إذ يقدم له الطعام والشاي في حفلةِ
الحديث اليومية، سمي الشارعُ باسمه، وكذا الحي ، لقد صار معلماً سياحياً شهيراً في
المدينة ومع ذا كان مجنوناً لا أكثر. أتعرفُ جسدي وأعي المواطنين فيه، و أتسأل من
أين يشعلُ الضوء، ومن أين يبدأ مسيري للكتابة.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...