لم أكن أعلمُ بأني تأخرتُ كثيراً لهذا
الحد. القلوب التي ينبعُ منها "الحب" عطشى، ترنو شربةً من حوضه لتروي
أجسادها، لتكمل مسيرة الحياة الشاقة. غابت الفوارق، و أصبحتُ أرى نسخاً مكررة من
الناس الذين يسعون بلا دراية، لا يعلمون أين هم من العالم و أين العالم منهم.
أتشاغلُ عني بتذكر يجعلني ذاتاً أخرى، أصافح يدي كما لو أننا لم نلتقي مذ زمن
بعيد، أتذكر، كيف جرح قلبي بهذه اليد الغارقة في التصوف، ألتفت لنفسي هذه ليست
يدي، عرفتُ الآن لمَ أعاني بعض المشاق هذه الأيام عندما أكتب. الجراح تصنع قلباً
بمناعةٍ قوية، وكأن هذه الصدمات تعيدُ تهيئته ليكون أكثر في الصمودِ و القوة، لقد
توسع صدري كثيراً حتى حوى جسدي.
من البعيد أقرر الالتفات لتوديعي
بالأمس، أنسى بعد التفاتي توديعي لأني أرى شخصاً غريباً، لا أتعرفه، تشع من يديه
النور، ويفوح من قلبه الجريح العطر، و تهتز الأرض من تحت أقدامه؛ الأرضُ قدماه
التي يسير بهما، والسماءُ عيناه التي يرى بهما، يجتمع فيه كل ألمٍ ومع ذا يبدو
سعيداً، يملئوه الكبرياء ومع ذا يحبُ كل الكائنات. لم أقدر على إكمال مسيري، أحس بالذكريات وهي تحتضر، أنا مستعد لدفنها
حيثُ لا أعرف، أختار فناءً لها لكنها لا تفنى رغم كل شيء يبقى ما يدلُ علي و إن
قررت عنه انفصالا. مررت بالمدينة وعلى غير العادة تبدو الشوارع مُقفرة، حتى
الإشارات انكمشت كثيراً فصارت يد الطفل الرضيع تصل لها بسهولة، مدينتي كشجرة
العنب، مُلتفة، وفي التفافها هذا تأسر قلوب سكانها، لولا هذا العشق ما بقيت مدينة
حيّة في العالم. أرى مُدن العالم في مدينتي، لأن المُدن شيدت بفؤادي الذي ينبضُ
بالكتابة، تتوارد التفاصيل الدقيقة لتبني جسداً لي يتمثل حروفاً وكلمات، الجسدُ
نابض بالمعاني التي سكنتني، المعاني تتوزع فينمو الجسد الذي يحوى الكائنات.
المدينة الفقيرة من البهارج، والزينات، يعلوها أحلى الحلل في عيون المنتمين لها؛
هي وطنهم والأوطان دوماً جميلة. الذاكرة وطن الراحلين الذين لا يرحلون، يبقى بالدروب ما يذكر، وتحكي
الشوارع عن الماضين من على زقاقها، فلا ينسى أحد؛ لا المدينة تنسى، ولا الأجساد
تنسى هي قطعة من الأرض التي نمت عليها مهما اختلفت، مهما تغيرت يدل عليها الدم،
وينطق بها اللسان. الآن يعبرُ صمتي قطعةً من قلبي ولا ينطق، رغماً عن ذلك ينزع
الجسد للمكان فلا تبقى لي إلا خطوة في الاتجاه الصحيح، هذا التعلق بالماضي يتناثر
في الأماكن، لتولد منه أخرى، هذه هي الوجوه التي تسكنني، كل جسد مكان، كل مكان
وطن، وكل وطن قلب ينبض؛ لذا وطني من أحببتُ وسأبقى أتنفس حبه ما بقيت، وستدل عليه لغتي
ما دامت تُقرأ. الذين يجهلون قلوبهم وحدهم يخشون من الحب، ليس الحب عذاباً، ولا
ألماً، ليس فرحةً ولا عيداً ؛ الحُب حياة كاملة بما تحويه من بداياتٍ ونهايات، من
صمتٍ وضجيج، من اكتضاض وفراغ، من شهيق وزفير يزداد أكثر، ويخفت أحياناً لاقتراب الوداع.
المدينة الشابة لم تولد بعد، لا وجهَ لها، ولا لغة، لا حلمَ لها، ولا واقع، تنسجُ
جسدها من مدنٍ أخرى سكنت مُشيديها، حتى تصيرَ مدينةً، حتى يولد وطن جديد خرج من
القلوب التي حملته طويلاً، وصار معالم.. ودروب. مع تأخري لم أصل بعد؛ لأني قطعت العالم
للجهة المُقابلة، أنا متأخر جداً مع أني أول الواصلين. عندما أصل؛
تمحى الطرق وتعود إلي بعضاً من جلدي، كل شعور وعي به، لذا تولدُ من ضلعهِ الطرقات. لستُ راحلاً بينما أحيا بالأفئدة تعرفُ أين أنا منها، و مع كل تشاغلٍ عن ذلك يكشفُ الآتي اهتماماً عظيماً، لأني أشدُ الناس حباً لهم، الكل يعلم بذلك، عندما أشتاقُ لأحدهم بشدة أُجمع به ولو عدمت كل سبل الاتصال، يتكون سبيل جديد لم يعرفه أحد. أنا حزين جداً لذا؛ أنا أكثر الكائنات سعادةً، بعد إذ وعيتُ الآلام وعيتُ النقيض. ظلي جزء من جسد المدينة، لستُ صوفياً لكن أغاني الصوفية تحيا بقلبي، يتراقصُ الصوت الذي حكى منذ ثلاث سنوات، لقد فقد صوته، لم يبقى له إلا رقصة يعلمني بها من يكون. الماضي الأليم جميل جداً، خرجت من كل ما كان بلا ظل، اليوم أتعرفُ ظلي الذي قيد ثم عاد ليتبؤ مكانهُ ومكانته، فقدتُ بعض مظاهر الرحمة مع أني أشد رحمة اليوم، أنا أشدُ محبةً. أفضلُ الصمت على حكايتي بلغةٍ لا يفهمها أحد، مضت السنين وبقيت كلماتي عالقة بذهني، لا أتذكرُ شيئاً مما قاله الآخرون.. لأن الجميع عجز عن الإجابة، لم أطرح سؤالاً لكن حديثي حمل عقولهم أسئلة جعلتهم للرحيل أقرب. أهزُ هذه الأرض، أجيبي أين أنا منهم، و أين هم مني، لكنها تريد لي النسيان فتحضنُ جسدي، لم يعد شيء غيري هنا، أشاهدُ يدي و أتأملها حتى أرى أي سيلٍ تجرفُ به المتكونات لتصير ركاما، تختصرُ البدايات بلحظة تجلي هي أبعد الغايات. لستُ وطناً لهؤلاء الناس؛ لأن قلوبهم مناجل، و ألسنتهم سياط، هذه أشياءُ لا تؤذيني لكنها تؤذي الأوطان بصدري، فلا أكونُ جزءًا من جسدِ خيانة. القساةُ خونة مهما بكوا، مهما أنشدوا، ومهما ادعوا العشق؛ لا يعشقُ المرء حقاً حتى يعي ذاته، والمعشوق فيها، أن يعي الطريق، والسائرون بها؛ كلهم غرباء وغربتهم وطنهم، لا وطن قابل للرحيل أو الهجر.
تمحى الطرق وتعود إلي بعضاً من جلدي، كل شعور وعي به، لذا تولدُ من ضلعهِ الطرقات. لستُ راحلاً بينما أحيا بالأفئدة تعرفُ أين أنا منها، و مع كل تشاغلٍ عن ذلك يكشفُ الآتي اهتماماً عظيماً، لأني أشدُ الناس حباً لهم، الكل يعلم بذلك، عندما أشتاقُ لأحدهم بشدة أُجمع به ولو عدمت كل سبل الاتصال، يتكون سبيل جديد لم يعرفه أحد. أنا حزين جداً لذا؛ أنا أكثر الكائنات سعادةً، بعد إذ وعيتُ الآلام وعيتُ النقيض. ظلي جزء من جسد المدينة، لستُ صوفياً لكن أغاني الصوفية تحيا بقلبي، يتراقصُ الصوت الذي حكى منذ ثلاث سنوات، لقد فقد صوته، لم يبقى له إلا رقصة يعلمني بها من يكون. الماضي الأليم جميل جداً، خرجت من كل ما كان بلا ظل، اليوم أتعرفُ ظلي الذي قيد ثم عاد ليتبؤ مكانهُ ومكانته، فقدتُ بعض مظاهر الرحمة مع أني أشد رحمة اليوم، أنا أشدُ محبةً. أفضلُ الصمت على حكايتي بلغةٍ لا يفهمها أحد، مضت السنين وبقيت كلماتي عالقة بذهني، لا أتذكرُ شيئاً مما قاله الآخرون.. لأن الجميع عجز عن الإجابة، لم أطرح سؤالاً لكن حديثي حمل عقولهم أسئلة جعلتهم للرحيل أقرب. أهزُ هذه الأرض، أجيبي أين أنا منهم، و أين هم مني، لكنها تريد لي النسيان فتحضنُ جسدي، لم يعد شيء غيري هنا، أشاهدُ يدي و أتأملها حتى أرى أي سيلٍ تجرفُ به المتكونات لتصير ركاما، تختصرُ البدايات بلحظة تجلي هي أبعد الغايات. لستُ وطناً لهؤلاء الناس؛ لأن قلوبهم مناجل، و ألسنتهم سياط، هذه أشياءُ لا تؤذيني لكنها تؤذي الأوطان بصدري، فلا أكونُ جزءًا من جسدِ خيانة. القساةُ خونة مهما بكوا، مهما أنشدوا، ومهما ادعوا العشق؛ لا يعشقُ المرء حقاً حتى يعي ذاته، والمعشوق فيها، أن يعي الطريق، والسائرون بها؛ كلهم غرباء وغربتهم وطنهم، لا وطن قابل للرحيل أو الهجر.
يعتقدُ الهاجر أني أبكي رحيله، لكن
منهاجهُ يحتضر في قلبهِ، لأنه بمكانٍ آخر حيثُ لا يوصفُ الباقي فيه أنه صوفي، كيف
يبقى صوفياً وقد ترك الحُبَ يهيم على وجهه بالمدينة. القساة يخونون أنفسهم لأنهم
يظنون أنهم حجارة، وهم من الماء، أيرضى الماءُ أن يكونَ صخرةً ولو تفجرَ مِنها؟ ،
إنهُ وهم الماء أن يكون صخرةً، أن يكونَ تراباً، أو يكونَ مبنى مُتهالك في أي
بُقعةٍ بالكون، ما الذي سيبقى من الجسد إن كان صخرةً؟.
تستنشقُ الرئة الهواء الذي استنشقهُ
العشاق و تظنُ أن العشق لا ينتقلُ بين الكائنات، لكن الناس دوماً ما يبتاعون دواءً
ليحجبوا أنفسهم عن الحُب والشوق؛ أن ينشغلوا بأحاديث الآخرين ، أو ينشغلوا بالفراغ
عن الحُب . ليس لي ماضٍ بينما يقولُ الحاضر أنه أنا، ليس لي حاضر بينما يقول
الماضي أنهُ أنا، لستُ أنا ما يقوله الماضي لستُ ما يقوله المستقبل أنا آخر يعرفُ
ذاته، ولا يصفها بغير ما فيها. ظننتُ أن الأحاديث التي تبخرت لن تعود، لكنها تصرُ
على أن أكشفَ حقيقتها، فيدمى بذلك الحاكي بها بجرحٍ عميق، أقضي ما تبقى لي من
الزمنِ لمدواته. ما أشبه اليوم بالبارحة، فأنا الغريبُ الذي ظلَ يبحثُ عن مراده
بالمدينة، صار يعرفُ قاطنيها أكثرَ من معرفتهم أنفسهم، لم يتغير شيء ما زلتُ
الغريب ، لكني صرتُ أعرف الآن لماذا أتجهُ إلى العزلة أكثر، وأختارُ صحبة باب
غرفتي على الآخرين، إني أحملُ ذكريات عميقة مع هذا الباب الذي ما زلتُ أودعه منذ
السنة الماضية، وما زالَ يودعني منذُ قدمت، أنا بقيت لهذا الوقت، وهو تعلقَ بي
فأسكنتهُ صدري، وعشتهُ الشجرة التي تثمرُ، وتطعم سكان قريةٍ صغيرة تنبضُ في قلبي،
لقد كان هذا الباب أكثر تصوفاً، وأشد توقاً لي، لذا بادلتهُ هذه الحال فانبلجت لي
تجلياته؛ هو قصيدة تحيا بجسدي، و رواية يحكيها لساني للعابرين. في الليل أنزل
لشارع الرياض وأبادلُ نفسي الحديث عما كنتهُ، وما صرتُ إليه، وتطلعُ لي صور لا أدري
عن الحاضر أم عن الماضي هي، أعتدتُ هذه الوحدة، لكني لم أستطع أن أعودُ نفسي على
أن أتراجع عن الاهتمام بالآخرين حتى قررتُ ذلك فعلاً وبدأتُ أبتعد ؛ هناك من أهتم
به، وأحزن لأجله، هذا ما تعلمتهُ من دمي الذي هجرتهُ طويلاً فنسي الناس وجهي وظنوا
أني مجهول مر بالمدينة، لي ذاكرة هنا ينطقُ بها جسدي و إن نسيتها، يبقى في المقابر
ما يُذكر، يبقى في الوجوه الحزينة ما يذكر، رغم أني لم أكن موجوداً حين ابتداء
الحزن، لكني أحملهُ وهذا دوري في العالم. لستُ صوفياً أنا عاهل آلام العالمين، يقول
لي الناس الذين أعرفهم أني اهتمامي بهم بالغ، وأنهم لم يعرفوا أحداً مثلي قبل ذلك،
إن سبب حزني هو سبب سعادتي، هذه حياتي ، وهكذا هي أسبابُ الحياة تجمعُ كل
المتناقضات، وتصيرُ جزءاً لا يتجزأ من بعضها لتكون الوجود.
الجرح ليس الهجر، وليس اللقاءُ جرحاً،
لكن اللسان الذي ينطقُ به يصرُ على أن يكون جرحه لقاء أو هجر ، لستُ أنا لقاءً،
لستُ أنا هجراً، أنا عاهل آلام العالمين. يظنُ المريض أن بمقدوره أن يغادر المشفى،
وأنه حر بجسدهِ، أن يفنيه، أو أن يطلب له العلاج ليبقى، لكن الأطباء لا يلتفتون
لهذه الطلبات الحمقاء، ولا يفكرون حينئذ بأنهم عندما يفعلون ذلك يخسرون كرامتهم،
أو يفقدون كبريائهم ، أنهم يحسون بكرامتهم تزداد عندما يمنعون هذا المريض على أن
يهلك نفسه فيبقون على مراعاته، والسعي في علاجه حتى يخرج معافى بإذن الله، هذا
الذي يجعل من العاهل يبقى رغم كل ما يحدث، وعندما ينتهي دوري فإن رحيلي يحين بلا
شك.
أُعلن حبي، لكن ليس ذا سبب بقاء، ولا
العشق ، ولا الحياة سبب بقاء ، لقد وعيتُ ما أنا، وسمعتُ حزن العالم الذي يزدادُ
يوماً بعد يوم ويتناغمُ مع نبضي، فلا أريدُ أن أسمع لكائناتٍ أُحبها وتظنُ أن
معاولها تعملُ على هدمي، وتشتيتي .
أعبرُ
الطرقَ التي تدلُ إلي، لأغيبَ في جسدي، أتوسدُ بعض ما كان، وألتحفُ بحزني ، جسدي
مدينة لا يخرجُ منها الداخلون لذا يبقى الذين أحبهم منذ أول وهلة رأيتهم فيها إلى
آخر قراءة أعودُ بها إلى نفسي .
يا
عاهل آلام العالمين ، رحلتَ وما رحلت عن الأوطان التي تسكنها، هنا بعضك، وهناك
وجهك الذي عادَ، ورحل شطرُ الوجه الذي لا يعرفك ، ورحل الحزن الذي يسكن عينيك
ليسكن قلبك العالم.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...