لم أعد أرغب بشيء .







لم أعد أرغبُ بشيء، كل الأشياء التي أردت إصلاحها بين لها الزمن كم هي مخطئة، يا لهذه التجاعيد كيف تدلُ علي؛ على الرغم من رحيلي بقيت الوجوه معلقةً بملامحي، بالحزن الذي يكتسيها في أوجِ أفراحها، أراني كطريق شقه الدمع على الخدود، أو كآثار ترهلٍ في وجهِ مُسن، أو على جبينٍ مُقطب، هذه ضريبة الذهول الذي أحدثتهُ دون أن أعي أنه سيغير الناس إلى هذا الحد.
لماذا أرى الكتابة تنسحب من يدي وتتوسد جدار قلبي؟، أتذكر، ولا أحس بشيء مما تذكرته، لقد صارت كلحظات تمضي ولم أشعر بها، هل الأمر بهذه البساطة تنتقل يدي دون أن أدري وأعيها بصدري، يقلقني هذا التحول، لم أعد أهتمُ كثيراً، وصار الناسُ أرقاماً زائدة في تعداد لحظاتي، لا أدري لما تقرر نفسي الهادئة أن تنفجر أحياناً، وترمي بكثيرٍ من الكائنات خارج حدود قلبي، إن الحب المستفيض الذي صار سمةً لي ما زال دافعاً يجعلني أتجدد مراراً، وأعودُ شيئاً فشيئاً إلى طفولتي. وجهي الذي ينعكس على المرايا، والحقول، و الزروع، وحتى على المدن وأبنيتها، على إشارات المرور، وفي مقاهي القهوة، و على شاشات التلفزة، وفي المباريات، وفي أماكن شتى، وجهي الشفافُ جداً يعبرُ منه الضوء أحياناً، ويختزنُ الضوء في أحياناً أخرى، أطلعُ منه إليه، يضنيني المسيرُ في الأرض أحياناً و أعود إلي أخذُ قسطاً من الراحة، وقسطاً من النسيان، أغفو، وأنسى، وكأن شيء ما كان، أولد من جديد، وأتذكرُ في اليوم الأول اسمي ثم أسلك دروباً في الحياة. عمري لم يبلغ أياماً بعد هو ساعات اليوم التي أقضيها كإنسان وليد، وهكذا أعي لِما كتبتُ مذ البداية، لأبقيَ شيئاً للتاريخ، أن أتعرفني في كافة الأيام والفصول . أقرأني، وأعرفُ الطرق التي مُهدت لأسيرها، والدروب التي حكمتُ أن لا تطأها قدماي، يسكنني الحب المنتشر على الكرة الأرضية، وأسمع صوت دمي النابض، دمي الذي يعيدني للوراء بسرعة هائلة لم أكن أعلمُ أني قادر إلى هذا الحد على قطع آلاف الأميال في دقائق معدودة، حتى هذا التاريخ يريد لي أن أكتبهُ من جديد؛ لأعي نفسي به، وأرى جسدي يترامى على حقبهِ و سنينه و يتحول كل شيء. لم أعد أريد أن أعرف شيئاً، فقد كشف لي كل شيء، يرى المسافر في المدينة التي سافر إليها مالا يراهُ سكانها، أنا أعرفُ أي أناسٍ سافرتُ إليهم، وأي إنسان أنا ، تنكشفُ الوجوه ليظهر وجهي في الأعلى، أنا أصعدُ سلماً للسماء، وأختنقُ ، أرتفعُ، وأحس بكل جسدي يتنفس، وأرى من سكنني ورحل كيف يتساقطُ كأوراق الخريف، لا أدري أجسدهُ الذي يتناثر أم الذاكرة التي لم تعد تقوى على تأدية مُهماتها ، أرى كيف بترتُ من هذه المدينة، مدينة لا تحضنُ سكانها مدينة تحتضر، تنتظرُ من يحضنها في الوداع الأخير، لم ترد أن تكون مدينة، وتمنت لو كانت أحد بنيانها، أو جزءً من شاطئها المُهمل، أو المحلات التي تملأ المكان ويرتادها الناس، قبل النهاية، لم تكن تتنازع الحياة، سلمت نفسها للنهاية . لا أملك ذاكرة تذكرني المكان، لم يبقى لي إلا عباءة تتهاوى على جسدِ الكتاب الواقف على الجدار، ويظهرُ من خلالها عنوانه الذي يكتبني . الصوت الذي يحنُ لي، يحملني الكتابة إلى مالا نهاية، معانٍ كثيرة أكتبها لتكون سبب كتابة بالقراءة، وبالحب الذي يحملني شوقاً كبيراً. عدتُ إلى مكتبي ، ولم أرى انعكاساً لي في المرآة، أنا جزءُ من جسد كل مرآة، أراني في وجوه أخرى، و فيَّ عندما أتأملُ قلبي . تسكنني المدينة التي رحلتُ منها قبل قدومي، تعلق في وشاحي، وفي يدي التي يبان منها أبراجها المُشيدة، وفي قلبي الذي صار بعيداً عني رغم أنهُ مني . لم يتبقى لي شيء هنا، لا أحتاج إلى أمتعة أسافرُ بها، ولا إلى مركبٍ أمتطيه لأخرج.. خرجتُ مني و لم أودع أحداً، الكل يراني حولهم رغم أني بمكانٍ أخرى، الكل يسمعني أحكي بلسانهم وأنا أحكي بلسان آخر، لستُ في هذا المكان، و لا أحكي هذه اللغة، أنا مكان و لغة أخرى .  
رغم ما أتيتُ من أجله، لا أملك أي رغبة في البقاء، الموت ليسَ أسوء التجارب على الإطلاق ، أسوء التجارب أن تفقدك فيك، أن لا تجدك عندما تعودُ إليك.
 أنا آتٍ إليَ حيثُ تقودني الطرق، وجهي ينبتُ من على وجهي بعد إذ كان وجهاً لم يمت لي بصلة، لم أرتدي قناعاً قط، لكن صورتي في قلوب المُحنطين جعلت من وجهي قناعاً ، ليس وجهي قناعاً، ليس وجهي هذه الأفكار، ولا هذه الطقوس، وجهي هو وجهي الذي نطق بالعاهل فيه، بآلام العالمين تقرأُ منه، وتظهرُ ما في القلبِ المرآة، وما في الجسد العالم. أنا فسيحُ جداً لا أمنع عن التفتيش عني فيّ. لم يتبقى إلا شهور قليلة، يفك قيدي الذي قيدتني به، وأرحل ، اشتقت لداري ، ولمدني التي بكت غيابي طيلة السنين الماضية، اشتقت لمن جمعتني به الطرق سنيناً طويلة، و الحزن أكثر من ذلك بكثير. مُدت لي أيادٍ كثيرة، كل تلك الأيدي كانت جزء من جسدي. أريد أن أعتذر لي، كيف ابتعدتُ عني للمنقرضين ، أصفُ كل شعور شعرته، لستُ أسفاً عليه، فنبعه صدقي ونقائي العظيمان . أغيبُ عن هذه الأماكن، لا أشرق عليها مرةً أخرى ، وتكسى بظلمة لا تهجرها ، فيقول الناس تلك المدن التي لم يطلع عليها الضوء بعد من رحل عنها، إنه بعضُ حزني الذي عشته، وبعضُ جرحي الذي نزفَ وسقى ما كان من شذاه، بعض مما كتبتُ و جاءت الدائرة على الأدمين ليقرؤوه ويعودوا إلى إنسانيتهم المفقودة ليضع الحزنُ حكمه عليهم فيبقون حزينين للأبد. لم أعد أهتم أبداً، لا أدري لما أحنُ إلى وجوه الآلات، إلى السيارات، والمآذن أكثر ممن يقال عنهم أنهم من البشر ؛ في ذاك المكان ، و من على شرفتي ألقي التحية على بنايات المدينة الشاخصة، وترد علي التحية . أحمل بعض الدفاتر التي كتبتها، بعض أحلامي المنتصفه ، وبعض قلبي الذي ظننتُ أنه انتهى . ما أجمل الرحيل حين لا يودعك أحد، حين لا يعرفك أحد، أزدادُ هدوءًا في كل يوم أكثر لذا؛ أنا أرسخُ في قراراتي من كل من عرفته، عندما أقررُ أن أفعل شيئاً فلا يمنعني شيء من مواصلة السير فيه، لقد وصلتُ إلى نهاية الطريق، والآن أشقُ طريقاً جديدة، وتشقُ لأجلي طرق أخرى، وبي طرق لا أعرفها سميت باسمي ، أنسى ، لكن العاهل فيني يذكرني فأزدادُ حملاً لآلام العالمين . حتى الآلام لم تعد قادرة على الأنين، لأنها فقدت قدرتها على الكلام. أصلُ بعضي بالآخر فأبلغ كل أرض ، وألتحفُ كل ذكرى .


تعليقات