لم أعد بعد







عاد الجميع إلا أنا ، لم ألقاني مع أحد القادمين ، فعرفتُ أني بمكانٍ آخر غير هذا المكان. 
لستُ أدري أينَ كانت روحي من البداية، لماذا لم يبقى أحد يذكرني من أنا؟.
أنفضُ ذكرياتي لأعيها نابضةً بقلبي، و أرددُ : أريد أن أفهم .
مرّت أيام على هذا المكان، لم يتغير شيء، غير بعض الغبار الذي يقول: لا أحد هنا، وبعض الكتب التي تحدثني على هجر كل شيء سواها . أتذكرُ أخر لحظةٍ جمعتني بهذه الجدران الوفية جداً قبل شهرين، مع أننا لم نلتقي منذ ذاك اليوم إلا أن علاقتنا تزدادُ قوةً، وصلابة، بشكل كبير جداً؛ صدري الآن أكثرُ اتساعاً بعد إذ أحسستُ بحزنِ الجدران. بدت لي ذاكرة النوافذ جلية من فوق التجاليد السوداء التي تستخدم عادة لتجليد الكتب، كيف تنفصلُ الذاكرة إلى هذا الحد عن الأجساد لتكونَ شيئاً مستقلاً بذاتها، لها جسد آخر، بل لها ذاكرة مستقلة. حتى المراوح التي لم تعمل أبداً مذ سكنتُ هذه الغرفة، تبدو أكثرَ التصاقاً بالجدار الذي لم تنفك عنه منذُ أعوام، وفي كل يومٍ يمر أراها تمعن في أن تكون جزءً منهُ، لم أعد أرى تلك المراوح أبداً منذ ذلك الوقت. أراهن الكتاب على قراءته للمرة العاشرة، لم يتسللني الملل أبداً، فأنا أتعرفني أكثر في كل مرة أحاول قراءته بطريقة جديدة، وأعي لأيِ شيء حزنتُ، وفيما كتبتُ كل تِلك الصفحات.
الذين عادوا للوطن، اندمجوا مع الحياة فيه وكأنهم لم يرحلوا قط عنه، لكن هناك ما يشوبُ لغاتهم، وأحاديثهم عن حنينهم للغربة التي " شطرت " قلوبهم مرة، وجعلتهم يمتلكون كل هذه القدرة على إعادة الحديث عن تجاربهم مرات ومرات على الآخرين الذين لم يملوا أبداً من السماع لهذه القصص .
هؤلاء الحاضرين لم يأتوا بعد، معلقين على الجسور، والأبراج المُشيدة في المدن التي سكنوها وما سكنها شيء منهم غير أنهم ما زالوا يحنون، ولذلك هم مقيدون في أوطانهم، لطالما رأيت الكثير يحن، ويكتم في صدره حبه للآخرين، ثم يزداد امعاناً في ذلك، فيهجرَ من أحبه، ويظهر الغلظة والقسوة، أو الحماقة، ومع ذلك عند العودة للنفس يندم، ويتمنى أنه لم يفعل ذلك ، الأيام كفيلة لتظهر لك أثر من أحبَك ولو بعد حين، وأثر ما تصنعهُ يديك ولو بعد حين.. الوجوه تكشفُ بما اعتادت عليه، فأرى البسمة عليها ولو ما ابتسمت، وأرى الحزنَ ولو ضحكت .
لم أستطع استقبال الحاضرين مذ لم أعد أراني بالمرايا، أنا شفاف جداً إلى ذاك الحد الذي لا يراني الناسُ فيه بأعينهم وإنما بقلوبهم، ولذلك أنا صوت في كل قلب أحبني .
لا تكفي الأرض رغبتها لتحضن القادمين بينما لا يتذكرها أحد .
ينمو الوطن من على شفاة القادمين الذين يعلنون باسمه الحُب، والشوق، واللهفة، وكل مشاعر مكنونة بأنفسهم، ربما كانت غضباً، أو حقداً، أو غلاً أحياناً ؛ لينسحبَ منهم ولا يبقى إلا اسمه يتناقل بين الألسنة، ومع ذا لا يعرفهُ أحد.
أنطقُ بي وأسمع صوتي المرتد على أبواب المدينة، وأنوارها تضيءُ باسمي على زجاج السيارات، وعلى المعالم التي نمت على جلدي؛ يبدأ مني السؤال المرتد على وجوه الآتينَ .. بينما أنا راحل مذ أمد بعيد ، الآن تذكرت كل المخلوقات البشرية في هذه " المدنية" أني كنتُ موجوداً في يومٍ ما، أعوام مرت، ومررتُ أنا مع ذات الطرق مراراً حتى تغيرتُ وسلكت طرقاً أخرى، تعلقُ بعض الذكريات في خطوتي لذا ما زلتُ أسير بذات الطريقة التي " سرتُ" بها مذ عرفت هذا المكان، ومذ سكنني فصرنا نلتقي ببعضنا يومياً على المرآة في الصباح، وفي تجليات المدينة و مقاهي القهوة في المساء، وفي الأحلام التي تجمعنا بآخرين عندما أنام، أو أغفو لأطرد عني أثار هذا التعب على وجهي فأرى ما صار مني مُذ ولدت. أنا أملك هذه المناعة الكبيرة، أن أتذكر ولا أتأثر، كل ما عشتهُ كفيل ليجعلني أكثر صمتاً وهدوءً في كل ساعةٍ تمضي من حياتي ، أعودُ فيها إلي ، وأرجع للوراء، تعود عقارب الساعة، وأعود لنقطة البداية غير أني تغيرت كثيراً، فمذ توسع صدري وحوى جسدي، لم أعد أشعر بأي شيء، مع أني أشعر بكل شيء ؛ ما هذه المفارقة؟ دوماً ما تساءلت عن ذلك " وعلمتُ " أخيراً أني لم أشعر بشيء لأني قد شعرتُ بكل شيءٍ من قبل ، وأشعر بكل شيء بأني ما زلتُ أمتلك التعاطف الذي ينمو كل يوم أكثر لأني أحسستُ بكل " تلك " المشاعر المتراكمة، والتي تتخالج النفس عندما تمرُ ببعض المواقف في " الحياة" ، أو تنشأ كنبتة تتقبل أيُ تربةٍ لتعيش فيها، ولو كانت سَبخة . لم يعد إلي صوتي، لكني نطقتُ به؛ صوتي اليوم يحمل كماً كبيراً من الأصوات القديمة التي سمعتها في دمي ، وصارت هي أبجديتي التي أخطُ بها ، و صمتي الذي يُجلي عاهل آلام العالمين .
تنزع المدينة عن جسدها رداءً قديماً، وتبنى به مدينة أخرى تنكرُ جسدها، وتتذكر الجسدَ الذي وعت ذاتها عليه، فتصيرُ جزءً من المدينة الأولى. لم أعد إلى أماكني التي أعتدتُ الكتابة بها، لأن كل مكانٍ مكانُ كتابة ، أكتبُ، وأرى العالم كيف يعود لطفولته، وكيف يشيخُ أحياناً من على أوراقي. في كل ضوضاء وقت للكتابة، كما أن في كل صمت وقت آخر أكتبُ به، على صيحات المشجعين، أو على تسامر الأدباء بمنتصف الليل، أو حتى على وجه القهوة التي تسفرُ عني، وتعبئ دمي بكل هذا المخزون من " الذكريات" لأقوم بتعبئة الورق بها، وبالقهوة التي تعلوا رائحتها دوماً من على دفاتري، وكأن دفاتري تحملُ كل أنواع القهوة معي أينما أمضي . أحب الكتابة جداً لأنها تريدني ذلك العائدَ إلي، الماضي بين أزقة المدن، وبين الردهِ التي لم يسلكها أحد، المتوقف بين الجموع ليحدثهم جميعاً عن أحزانهم، عن الماضي الذي يطلعُ من وجوههم، وعن توقهم للمستقبل، للحب الذي ظنوا أنه غادر حياتهم بينما مازالوا يعيشون على ذكراه، وللشوق الذي يدافعونه بينما تفصح عنه أجسادهم التي ترتعش وتنتظرُ الثمارَ لتتساقط، ولينمون في ما يأتي من " اللقاءات" .
ما زلتُ كاتباً، لكن الحب الذي يفيضُ من روحي ليسكنَ روحاً أخرى نمى إلى حدٍ لم أعي فيه أيُ حد يمكنني أن أصلَ به . أخطو قليلاً إلى الأمام، وتبقى خطواتي التي خطوتها منذُ وقت بعيد تعيد كرتها، مراراً ، أنا موجود في كل الأماكن التي " تركتها " ، لا يحسُ برحيلي أحد غيري منها .
الآن ،،
السائرُ فيني إلي " توقف "
يريد أن يتهجى اسمي من على ممر في حي فقير ..
يقالُ : أني كتبتُ هنا مرةً على ضوءِ المصباح المكسور
لم يضيءَ إلا ذلك اليوم مذ ثلاثة أعوام
ولم يعلم أحد " لما " توقفَ عن العمل ..
ضاع مني صمتي في ذاك المكان، وأُبدلته قلمي .. الآن صار لصمتي صوت تعيه الورقة
ويقرأهُ " الصامتون "
السائرُ فيني " توقف "
لينطقَ باسم العاهل فيه
بسم كل حزنٍ بدأ من آخرٍ بعيد
ليسكن أقرب الأماكن من الأماكن ؛ هذا القلب .

تعليقات