نور يولد من " رحم" العتمة .











طلع الفجرُ من قلبيّ و محا في مسيِّره ذكريات تعتاشُ على العتمة. في كل صباحٍ أهرعُ للكتابة، وتتلقاني بصدرٍ رَحِب، يدثرُ أحدنا الآخر، وينعكسُ كل مِنا على وجهِ صاحبه. كان رحيلي مؤلماً، ذلك لأني علمتُ به قبل أوانه، وأصبحتُ أعد في الأيام، والكلمات التي كتبتها قبل أن يأتي، لقد كنتُ أنتمي لتلك الأماكن لحدٍ كبير، وهذه العلاقة كانت ممتدة بيني وبينها فقط، لقد كانت الكائنات الحيّة والتي يمثلُ غالبيتها البشر لا يمثلون في تلك المُعادلة شيئاً، فالذي يختلف أن وجوههم تختلف مع كونهم نسخاً مُكررة، يرددون كلام بعضهم كالببغاوات، ويرثون الخوف، والحماقة ربما. 
لم أعد أعبئ بأي شيء، و أحياناً أُحس بأني فقدتُ التعاطف، فما يدور حولي لا يحثُ إلا على السخرية، والضحك، الشخصُ الحزين الذي كنته أصبح ضاحكاً، و مستهزئا أحياناً، في أحيانٍ أخرى ألجئ للصمت، فكل الحجج التي تورد أماميّ مُكررة، أنا أكثر من يعلم أن الذي يكثرُ من ذكر الحجج ليسَ مقتنعاً بأنه مُخطأ، ولكنه بشكلٍ ما يعتقد أنه على صواب، وأن كل ما فعله منطقي، لكن الدبلوماسية الفارغة هي من تقودُ إلى الكذب، وإلى التراقص على جراح الآخرين لا لشيء، فقط ليشيروا إلى الحد الذي فقدوا فيه إنسانيتهم، وأصبحوا لا يختلفون عن سائر المواشي و الآلات. 
لقد نمّت علاقتي بالجدران، بالمقاهيّ، وبمصلى الجامعة، حتى وعيتها تسكنُ روحيّ، وأحسها جزءً من جسديّ الذي وعى كل هذه الذاكرة التي أتخاصمُ معها على مدار الساعة و أتسأل لماذا ما زلتُ أتذكر، ولماذا ما زلتُ باقياً رغم أني رحلت، كثيرة الأسئلة، لكن الإجابات لم تكن مواتية، حتى إذا كتبتُ بانَ ليّ ما سُتر، وصار على الأوراق جلياً ظاهراً. لقد اعتدت على هذه العلاقة مع نفسي، و ازددت وِحدةً بيّ، حتى رأيت ما يجمعُ نابعاً من روحيّ، و الحب الدفاق يزدادُ، وينبع من أماكن شتى. الطريقُ من الحزن إلى الحب كبير، لقد قطعتهُ، ووعيت جوانبه، جزءًً منيّ، فبهذه المعايشة الطويلة، صِرنا شيئاً واحداً، ما أجملَ أن تكونَ طريقاً يقودك إليك، إلى جمال نشأتك، إليكَ في فصولٍ جديدة لا يعرفها إلا أنت، و انعكاسك في وجوه الآخرين. بتُ أراني في كثير من المارة، أتحاشى ذلك، وأمضي تاركاً بعض الذكريات على الأماكن التي التقينا بها، ويعبثُ الدفء بروحيّ، ليستخلصَ خروجاً آخر مِنيّ إلي، أعود لأرى الصور، والبراويز القديمة، أشرطة للذكريات هنا وهناك ؛ الجمال الذي يأخذني بعيداً عن مساحاتيّ إلى مساحات أوسع وأكثرُ بياضاً من ذيِ قبل، فتستوعب كتابتي التي تحملُ هذا البياض في جمل وكلمات. 
عندما تتضخم الذكريات لهذا الحد تصبح تشكلُ صورة للحياة بكل ما تجمعه من المتناقضات، أرى الآن ما مضى كيف يدل عليه سلوكيّ ويكون حافظاً له من الضياع؛ من النسيان بشتى صوره.  عجيب أن يبتدئ مقامي بورقة، وينتهي بورقة، وبين تلك الورقتان ذاكرة طويت ولم يعد لها أثرُّ إلا على وجهيّ، واسمي، الذين لا يغيبان عن كل تفاصيل ذلك المقام الحزين. أنا أعرف أكثر من غيريّ أن كل هذا الجمال المُتبدي، أسفر من كفيّ الرحيل التي استقبلتني بكل حُب وشغف، هذا الحُب ينسي كل ما قبله، ومع ذا تبقى التجربة على الورق، وعلى ما يأتي من الأيام.  غِبتُ عن المكان، ولا أرى أني عائدُّ إليه، فكل يوم يغيرني أكثر، وكل يوم يبعدني أكثر عن المكان ، وعن الذكريات، عن الماضي الذي أحببتهُ، ثم قررتُ بتره عنيّ، أن أجعله يواجهُ حياته مِن دونيّ، ويتنقل بين الوجوهِ المُكررة في المدينة المغيبة عن " التاريخ" ، وعن الحب ، المدينة التي تكتسبُ صقيعها من قلوبِ سكانها، من الدماء الباردة على أبوابها ، ومن الكتابة التي كانت تلجئ لي في أحلك الأوقات التي أبحث فيها عني. أسمعُ ما قلتهُ وأرتدَّ علي، أتأملُ في الكلمات، في الجمل التي حكيتها، في صوتيّ الهادئ كيف يصبحُ بمعالمَ أخرى لا شيء فيها إلا أنها تعرفني وتدلُ عليّ . قرأتُ اسمي وأنا مارُّ من السبيل التي اعتدتُ المسيّر عليها، لكني لن أسير عليها مرَّة أخرى، لقد تسمت بيّ، ولقد نسيتُ اسمي الذي تسمت به ، و اتخذتُ اسماً آخر، تريدُ كل الأسماء أن تنتسبَ ليّ، تريدُ كل الهويات أن تمت ليّ بصلة، لكني فوقَ ذلك عاهل آلام العالمين ، هذا اسمي، وهذا ما عرفتهُ عنيّ مُذ وعيت مسير الأشياء فيَّ، ومسيريّ في العالمِ الطالع مني .

تعليقات