يتقلص الصف الطويل على كشك القهوة
شيئاً فشيئاً، وكأني لم أكن قبل دقائق في آخره، لم يستغرق الأمر شيئاً لأكون في
المُقدمة بينما ينتظرني ويتبعني آخرون لا يتفقون معي على شيء إلا إلى الوصول إلى غايتهم
؛ الحصول على " القهوة ". بينما لم أزل مُتسائلاً جاءَ ما يقطع حَبل
الكلمات التي تنتهي بعلامات استفهام كثيرة، حتى صوت مُسجل السيارة غاب، لم أعد
أسمعُ شيئاً غير الأصوات التي تدور في عقليّ، وأشدُ انتباهي لها، وتزدادُ في
الخفوت على مهل حتى تغيب، ولا يبقى إلا " الفراغ " الذي يُحيلني إلى
التوقف. لقد قررتُ بشكلٍ ما أن أنسى، أعودُ مرّة أخرى لأعي كل شيء أمامي،
السيارات، أصوات أبواقها، الإشارات الضوئية التي تعلمني أن أعود إلى منزلي،
وأتبادل الحُب والكتابة مع " الكتابة" ، أخلو بيّ، أغوص ، وأستكشفُ الدر
في عمقي، ويظهرُ كل ذلك في ما أكتبه ظاهراً مقروءًا. يعود هذا التقلص بأشكال كثيرة، فأطالعه في الحيّاة التي وكأنها صفُ ممتد، يقوده من كان في أوله، ويتبعه الباقين رغماً عن كل الاختلافات! ؛ ذاكرتي لم تعد مع الطريق الذي سلكته لأنها وصلت، وهذه هيّ نهايتها، لا خلاص من الرحيّل.
كثيرة الأشياء التي تتقلص، لم أعد أتذكرُ من رحلتي إلا النزر اليسير. صفُ القهوة الذي يتفرق، يبحثُ كل من فيهِ عن صفٍ آخر ينضمون إليه كعقد مضموم يقود إلى غايةٍ ما. كثيرة الصفوف التي وقفتُ فيها، وكثيرة المواقف التي دعتني إلى ذلك، تذوبُ كقطعة سكر في كوب الشاي الذي أمامي، وتتوزع لتكون شاسعة، في هذا العالم الصغير. أرقبُ قطعة السكر كيف تهبط في خطها، وألحظُ تأثيرها عليّ عندما لا تستطيع عيني أن تراها، فتتراء ليّ المواقف التي مررتُ بها، ذوبانها في ذاتيّ، فأزدادُ قوةً، وتترك أثاراً تُرى، وتُعرفني. لم يعد ما صارَ خافياً، فأيِ شوقٍ يدفعني لقرائتي يريني ما كان، مثوليّ أماميّ للمحاكمة، شعوريّ بين الصفحات، والكلمات التي كتبتها، شعوريّ حينذاك، وشعوريّ اليوم بالبهجة وأنا أقرأ، لقد ذاب الحزن، كما تذوبُ قطعة السكر في كوبي، وتركت هذا الأثر المُتغير؛ أن تجعلني سعيداً. لم يبقى أثرُّ للمدينة التي سكنتها، ولا الأماكن التي جمعتني بها ألفة، ولا بالناس الذين أحببتهم، لم أتغير، فالحبُ الشاسع يهطلُ من روحيّ ويسقي الكائنات التي رأتها عيني، لكنها دورة الغياب، تعود، وترتدُ عنهم. صار الغائبون عنهم، تماثيلَ مُبرزة، يرى عِمارتها كل مارٍ من ذا المكان، إلا أنا فقد كنتُ أراها فخاراً لهُ صليل، أضربه، فيرد عليّ الصوت، لا يستطيع أن يرد بطريقةٍ أخرى، ولا بلغة ثانية، إلا أن يُكسر فتزادد قدرته على البيان.
يتشبثُ الربيع بمعصم الشتاء، لتبقى أثارُّ للخضرة منه، يجتمعان، ويحملُ كل منهما الآخر على البقاء، هذا ما يجعلُ من " الحب" جميلاً أن يجمعَ بين المختلفات، ويبقى القلبُ فوقَ كل الفوارق، لا يعي إلا الجمال .
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...