زقــاق الذاكرة.







عمت مساءً، مرّ وقت طويل، لا أدري، هل تعي كيف شطرني غيّابك إلى نصفين، جزء في الماضي، وآخر يمشي حافي القدميّن، في دهاليزَ لا يعرفُ عنها إلا الظلام. أنا أعرف، أنك لم تعد قادراً على الإجابة، ولا على المواساة، فالذي يفصل بيني وبينك حياة أخرى، برزخ لم أعش به بعد، رغم أني وبشكل ما، تعلقتُ به لحدٍ كبير. ما زلتُ ألقي التحية عليّ في الأماكن التي انكمشت عندما انتهينا منها، فصرتُ أمُر عليها ككائن لا يُرى، أحسبُ أن جسديّ يتبخرُ عندما أذهب إليها، ويتبقى خلفَ ضلوعي غصة، تكشفُ وجهي للعالم، تظهره بمظهرٍ حزين. أحياناً، لا نملكُ إلا التحيّة لتعبر عن بعدنا، نحنُ نحتاج إليها، لنثبتَ أننا لسنا ذلك، ونحتاجُ للقاءات لنثبتَ أن علاقتنا لم تنتهي بعد، فنلتقي على مضض، ثم نتوارى مُسرعين إلى الفراغ . عندما تصبح اللقاءات مُجدولة، مُحددة، تجمعنا كأننا طلاب مدرسة لا يتذكرون من الطابور الصباحيّ شيئاً إلا أنه سيء، ومقيّت جداً، ولا يأخذُ من ذاكرتهم إلا جانباً صغيراً، مع كل كلمات المقت، والرفض. إنه الاجتماع عندما يكون فرقة! . كيفَ نلفظُ المقامات، و الرده الجميلة، كلبانٍ فاسد، وكأن الذكريات رخيصة، نبصقها على الأزقة، لنجعلها ملوثة بالحزن، والأسى، الكبيران.  عندما تخلو اللقاءات من كل شيء جميل إلا موعدها، فإنها تزيدُ في فرقتنا، وتجعل وجودناً مُجرد أثر عابر، لا يحس به، ولا يعرف به أحد. مرّ وقت طويل، ليعود مراراً، يلتصق بالصور، باللصاقات التي كتبنا عليها تواريخ لقاءاتنا، ثم صارت بعد إذ تواريخ الفراق الذي كتبتهُ أيدينا. تنسى الأزقة لأي شيء وُجدت، وتسير في الشوارع، على أزقةٍ أُخرى، بالأمسِ كانت أزقةً...واليوم من جملة المُشاة الذين لا يشكلون في تاريخ الطريق، إلا عُبورهم منه، لقد أصبحت من محطة عبورٍ إلى عابرة، تمشي، وتملك أحلاماً مُعلبة، أخرى، كأي إنسان يستورد حلمه، وأفكاره، ليبقى نُسخة عن مخلوق آخر، ومع ذا يعتز كثيراً بتفرده عن الكائنات. يجتمع الناس، ليجعلوا من جلودهم أزقة، ليعبروا، منهم، إليهم. تتصلبُ جلودهم، لتكونَ قادرةً على فعل ذلك... أن تصبح أزقةً، ثم يجعلون من أزقة الماضي أرديّة، وجلوداً، يلبسونها، وتظهرهم بمظهرٍ أجمّل، ذلك، أن كثيراً من المارين، يمتلكُ ذاكرةً معها، والذاكرة كفيلة بجعل الكثير يلتفت، ويتوقف، ليرى ما لم يكن ليراهُ في العادة. أُمزق أوراقي، اللصاقات، والذكريات التي خرمتها بالكتابة حتى لم أعد أشعر بها، وأرمي بالمحّال، عُرض الهباء، حتى ألقى نفسي، على نبع الصفاء، أنظرُ إلى وجهيّ، ويتراء لي فيه كل وجهٍ أحببتهُ، وكل قلب نبض بي، وأشعل التوق، كلمات، ومعان، تسكنُ جسدي، وتعانقُ قلمي. يتشكلُ من ذا النسيان، ذاكرة أخرى، لا يجمعها مع الماضي إلا اسمي الذي وعيته، و كتابتي التي تجري مني مجرى الدم. عمت مساءً، راح الليلُ، وهب أحلامه، لفقراء الحُب، ليزدادوا ارتواء، ويسيروا في الأرض وقد مُلئت صدورهم بالنعمة، وأيامهم بالجمال. عمت مساءً، جئتُ إلى مستقرنا، ورأيت فيه المنفى، فخرجتُ عنيّ، لألقاني السامي في الشاخصين الذين يأتون خفافاً، ويرحلون وهم وطن الجمّال... وطنُ قلبي الذي اسمع نبضه في صدورٍ شتى. يا عاهل آلام العالمين، من الوحدة، إليها، تسيرُ إليك الطرقاتُ التي ما أردت عُبورها، وتلمعُ في عينيك كلمة الحب، صامتُ أنتَ...يا وطن الصامتين، قادم أنتَ، يا أولَ من رحل . أتيتُ من المدينة التي بنيت على ضلعي، ورحلتُ مع الظلِ الذي اكتسى جسدي، ليكونَ صورته في الآن...حيثُ لا يعبر من هنا إلا الحُب مراقاً، وسلسبيلا.


تعليقات