قبيلة العناكب.







ربما لم يتبقى أثر كافٍ ليدل علي؛ ما كنتُ في الماضي، وما الحيّاة التي كنتُ أعيشها حينذاك. لم يدرك حجم الصعوبة في قولِ ذلك أول مرّة، فلم يكترث لأحد، ولم يهمه أبداً أنه لم يمتلك الوقت الكافي ليقول ذلك، إنّ كل ما يدركهُ هو انسيّاب كلماته كتيار يجرفُ أمامه كل شيء، يتوسع التيّار، يكبرُ، حتى يصير بعرض بحار شاسعة، ثم يزداد تدفقاً، ويجرفُ ما أمامه ليجعلها جزءً من الطريق الذي يشقه، كآثار بلا هوية . عندما أتحدث، يبقى من يستمع صامتاً، لم يملك أحد من الناس القدرة على مُقاطعتي، ورغم ما يملكونه من التحفظات اتجاهي فإني عندما أدخل في هذه الحالة من " التحدث" و من التعمق، حتى أتحسس روحي بين الكلمات، وبين المكان الذي يتغير كثيراً، وأبدأ برؤية ما لم أستطع رؤيته، واستمر بحديثي، ويستمر الجموع في صمتهم، ولا يبقى مساحة لشيء إلا للعيون لتقول أشياءها، وتبثُ بعض الأفكار التي تتراقص أمامنا كمسرحيةٍ صامتة في القرن الماضي. أنا أتغيّر فعلاً حينئذ، ويحسُ من حوليّ بهذه التحولات تحدث أمامهم، ولا يستطيعون أن ينبسوا ببنت شفة، في أحد المجالس لم أُحس بأني تحدثت طويلاً حتى جاء الأذان ليذكرني أن لديّ بعض الأعمال بعد صلاة العشاء، خرجت حينها و الوجوه تعلوها صدمّة مما قُلته، أما أنا فلم يك ذلك إلا عودةً إليّ بسبلٍ أخرى. يتبقى أن يخرج من المكان الصامت، حتى تبدأ الأحاديث خلفهُ تنسج بيوتاً للعناكب، تِلك الأحاديث التي لا تصمّد أمام نفخة رضيــّع يلعب، ولا يعلم أنه يدمر كل تلك المُخططات للعيش الأجوف على الهامش. إن حدود مقدرة العناكب في صنعِ هذه الشباك الرخوة، و لأن علاقتها ببعضها رخوة كهذه الشبكة، فهي تتغذى على بعضها البعض في صراعها لأن تحيى على جثث الآخرين وعلى خيباتهم وضعفهم أيضاً. يستمرُ العنكبوت بالحيّاة قاتلاً، ينتظرُ من يقتله أخيراً في هذا الصرِاع، وكأنه يكفرُ عن " المّوت " بعض خطاياه التي اقترفها !. تزرعُ كلماته فتائل لأحاديث، ورؤى، تبني عليها العناكب بيوتاً، وعندما ينتهي وقت التشييد يتقاتلُ من اجتمع قبل قليـّل على المُتحدث النقي. إن العناكبّ تملك بيوتاً كما تملك المخلوقات الأخرى بيوتاً، لكنها، تعتاش على طبيعتها الضعيـفة، و تكون عدم مقدرتها على الصمود سبباً للترحال، و لبداية زرع بيتٍ آخر لن يصمد طويلاً. لقد خرجتُ أخيراً من عش العناكب هذا، وتركتها للصراع، بقيّت كلماتي تدوي هناك، ويعود أثر تلك الكلمات هُنا، وتنمو شيئاً فشيئاً، حتى كأنها تُرى من وجهي، ومن يدي أحياناً عندما تسقي دفاتري ببعضٍ من رحيـّق قلبي. يتبعُ حديثي العميق كتابة لا تختلفُ كثيراً عنه، أعود إلى مكتبي مُنهكاً، لقد كنتُ أرى في كل قطعة من الأرض مكتب ليّ، أندمج بها فنصيرُ شيئاً واحداً، أعود إلى مكتبي وأنفضُ عنيّ بعض شبكات العناكب التي علقت بي، أكتبُ، وأرى كيف تنسج بين الكلمات أعشاش أُخرى للعناكب لا تدوم طويلاً حتى يغسلها المطر، ويرمي بها إلى مناطقَ أخرى لا أعرفُ مقراً لها. اصرخ بكل قوتي، وأرى ما الذي يتزلزل في نفسي، وأرمي به قاعَ محيطٍ ينتمي لي حتى يعود الضائع إلى المُشيّد، حتى يختلطُ صمتيّ بكلامي، وحتى أرحلُ في مجيئي ، وأجيءُ في رحيلي. لم تكن صدفةً معرفتي بكل العناكب البشرية، دوماً، ما كانت ليّ رؤية، وجانب لا ينتمي للجهات التي تُرى فيها، وكنت أتسأل لماذا كنتُ قادراً رغم بعدي عن الآخرين، على تفهم آلامهم، ما يحزنهم، وما يخشونه بحياتهم. كنتُ أرى الجوانب التي تشبه الأشياء ببعضها، والجوانب التي لا تنتمي لشيء منها، لقد كنتُ أعرف العناكب منذ زمن بعيد، كما عرفت النمل، ومستعمراها، وغيرها، وهذه المعرفة جعلتني أزداد معرفةً بذاتيّ. لقد كانت تلك المقدرة، لعبةً لا أكثر فيما مضى، أعرفُ، ثم تنتظم خيالاتي على هذه المعرفة، أحلل، وأبني، حيّاة كاملة، وطريقة عيش، منهج، وأسلوب. جميع هذه الأنواع البشرية، تعرف أني أعرف، لذا تخشى، وتبني تصوراً، وكلمات عني. إنها الغريزة لا أكثر ، التأهب، ثم الهجوم، بعد ذلك يعرفون أنهم لا يهاجمون إلا سراباً في خيالاتهم، ليسَ صورةً عنيّ، ولو اجتمعنا مع بعضنا لما عرف أحدنا الآخر . كثيراً ما كنتُ أتابع هذه الصراعات، وأضحك ، لقد كانت تشدني أكثر من المسرحيات ، والأفلام . هذه الطبيعة العنكبوتية، دوماً ما كنت ترفضُ وجوديّ في الأماكن التي تبني فيها مُستعمراتها الهشة، ثم تعيّد مراراً بناءها ، وتكراراً، في كل الأوطان التي رحلت لها، في كل المُدن التي تتسربُ من جلديّ كنزقِ مصباحٍ يُريد أن ينطفئ وينهي مُخططات حياة بأكملها. وفي كل القرى التي تحن للرمالِ التي خرجت منها، وفي كل الأماكن التي تجمع الآخرين قسراً، ثم ترميهم في العراء، بلا هوية، ولا أثر يدلُ عليهم إلا أنهم بعضاً من الحشد. ورغم أني أختارُ الرحيّل أخيراً، فإن النبأ يصل، العناكب تموتُ في النهاية، وتبقى المواطن التي ملئتها خاليّة على عروشها . لا يهم ما تكون، مقلق أن تنتهي بلا أثر يدلُ عليك، مقلق أن تتحرج جداً من الحُب ، أو تقتات عليه كعنكبوت، أن تقتل أحبابك، بسمك الزعاف، وتعيش وحيداً، خالياً. لا أعرفُ الوقت الذي بدأت فيه بالخلوة، لكن ازديادي بها ظاهر للعالم. صرتُ أرى انعكاس الكائنات، في الأوطان، والمدن، في القصائدِ، وحتى " الأحلام" التي يرددونها في مجالسهم لتكوين رؤية، وحالة ما. الكثير، يقرُ أخيراً، أن سبيل الحُب مليء بالمرارة، إن مرارةً كهذه، تتركُ أثراً للحلاوة لا يزول، إنك تعرف أغلى ما تملكه في حياتك عندما تفقد كل شيء، و عندما تفقد الأشياء، تعرفُ جوهرها في قلبك. قلبيّ لم يعد قلبي، ويديّ لم تعد يدي، إنهما في حالة عظيمة من الامتداد، والتوسع، حتى بتُ أرى العالم جزءً منهما. تتركُ الآثار، يعلقُ بها عطره، وبقيا المرايا التي عكست جسده، تتذكرهُ على مرار الأيام، لقد رآها الناس، ومرّت أمامها الكائنات تلقي تحياتها، للعاهل الذي سكنها، للعاهل الذي انخرط في الطرق التي خرجت منه، ولم يعد يرى إلا بالقلوب. يا عاهل آلام العالمين ، تصعدُ إلى المرايا وتنحني فلا تعكسك ، لكنها تلقى وجهكَ في الأرض التي انحنت قِبلها يلقي عليهم تحيا الحُب. أمدُ يديّ لتعبرَ القارات، ولتكتبَ في البقعة التي لم أعرف بها أحداً غيريّ... يكونُ الألم سلوى، وحلوى جميلة حينما أتذكره، ويوزع على أحلام سكان المدينة. تنعكفُ الطرق، وتوليّ وجهها قبّل وجهي ، حتى أرى في المختلفات أوطاناً أخرى تُعرفني الإنسان فيّ، وفي العالم. يا عاهل آلام العالمين ، علقت أغنية في زوايا الذاكرة، تدورُ كعاشقٍ صوفيّ لم يعرف الطريقَ بعد، كضالٍ يتبعُ وهجَ مصباحه، ولا يعرفُ الغايّة، كقلبٍ عالق في خاصرةِ الأيام كعبرّة، وكصورة جميلة تُحيي نهمَ العاشقين للحب. يأتي الحُب بصورة مواقف، بكلماتٍ، وبقصائد، وأبلغ صور هذا الحب هيّ صورته الصامتة، عندما لا تكون الكلمات موجودة، لكنها تعيثُ ضجيجاً في أفئدة أصحابها، وتعيد بنائها على هيئة تتلائم مع هذا " النهم " للجمال. يا عاهل آلام العالمين، يا صورةً للحب، تدورُ الصور، المشاهد، والأحلام كأفلاكٍ حولك، يترنحُ الماضيّ، ويعود طِفلاً جميلاً، لا يعيّ إلا مساحته الضيقة، والواسعة جداً، ثمّ تأتي في أثر الفصولِ معانٍ لا تنتهي ، تلهجُ ألسنة، تصعقُ أخرى فلا تستطيع الحديث وتبقى أنتَ في أوجِ عزلتكَ، أكثرُ المجتمعينَ بالعالم.

تعليقات