غريب الكتابة.




كغريّب عاد لوطنه بعد إذ انتزعته يدي السفر عما أحبه، لكنه بقي عالقاً فيه؛ مُسردباً في جسده، وموشِحَّاً لذاكرته الصغيرة. كغريّب عاد يتصفح وجوه ساكني المدينة، ووجدَ  أنّ الوجوهَ أقنعة، وأن الأيدي بعضُ أعقاب سجائر نتنة، وأنّ العيونَ مغاراتٍ عبثت بها أُهزوجة الريح.  كغريب نسيّ أسماء الفصول، و ارتدى بزة صوفية للقيض، وأبقى صدره مكشوفاً للشتاء ينهشُ منه ما يشاء. كغريب، بدأ يوزعُ ذاكرته على أطفال المدينة، ويسكبُ منها زيتاً للمصابيح، تضيء الطرق، وتسربُ مشاهدَ مما كان، من الماضي الذي أنقضى وما أنقضى مُذ كان.  كمهاجرٍ عاد لقريته، و عرف أن الدفء غادر مُذ صارت الأبواب حطباً يقي من أضراس الصقيع، مُذ لم يعد قادراً على تذوق طعم الخبز مُذ رحلت والدته ؛ فكلُ من صنع خبزاً لم يقدر على أن يضع بعضاً منها فيه، ففقد قداسته على مائدة الطعام.
كغريب أعودُ مرّة أخرى للكتابة، وقد انضخ من قلبي الكسير العالم، الفؤاد الذي تغيّر، وكبرَ حتى كسر الحدود.  نمّت شرنقة النور، حتى فتحت أبوابها عن الغيث الذي يعكسُ وجهيّ على مدارت القلب. يطوفُ حوليّ الكلام ويجلي عن صمتي الحيرة.
يجيءُ المشتاقون، جماعات كثيرة، فأصرفُ لهم حقائب سفرٍ فاخرة من جلدي ليجدوني في الغُربة فصلاً لا يُبدله الزمن. 
كغريّب جربَ الاختناق كثيراً عندما ينقطع عن الكتابة، وعاد إلى التنفسِ مرّة أخرى ليتنشق عطر الكلمات، ويذوب بين ذكرياتٍ، وعِبَّر. أستكشفُ يدي مرةً أخرى، الحقول نمّت، المُدن أصبحت شاسعةً لا يصلُ لمداها البصر، القُرى تبصرني تفاصيل صغيرة غفلتُ عنها، هذا ما تفعله الكتابة؛ أنّ تجعلني أملكُ رؤية واسعة، فحينما أستمعُ إلى وقع النبض بيّ، يظهرُ لي ما أراه، ويستحق الكتابة. إنّ كل شيءٍ يستحق الكتابة، بلا شك، هذا ما أؤمن به.  من قُعر الوحدة، وجدتُ لصوتيّ جانباً يُطربَ بيّ بعض الدائرات؛ يدورُ بعضيّ ككواكب دُريّة، ويبقى بعضي صامتاً يرقبُ ما يكون حتى أُشرق عليّ من مكانٍ لا أعرفهُ، و أبدأ بالرؤية بطرقٍ أخرى، وأكشفُ عن قلبي؛ عن ساكنيه، عن من رحلّ بملء إرادته، عن الكلمات التي أزهرّت به، وعن الكلمات التي اتخذت لها منكفئ يهجع إليها بعضُ الساكنين.   من قعر الوحدة، دمج كل طريقٍ بالآخر، فصارَ طريقيّ كُل طريقٍ سلكته فيما مضى ؛ صار الراحلُ أتٍ، و الأيِّبُ راحلاً. 
كغريّب يتصفحُ المدينة كقائمة المأكولات في مطعمٍ صيني، ويكتشفُ أنها حلوة حدَ الكفاية، ليكره الحلويات. من المذاق ذاته، يرى في كل طوبةٍ يراها سكراً. الشوارع عُبدت بقطع السكاكر ممزوجة بأفخر أنواع الشوكولاته ، السيارات من البسكويت الهَش، أعمدة الإنارة من اليقطين المُغمس بالفانيلا والمثقوب ليبدو كرأسٍ غريّب ينتمي لأحلام الطفولة. من المذاق ذاته تغيَّر كل مذاقٍ آخر؛ القهوة لم تعد مُرّةً، لم يعتقد أنها تستحق اسم القهوة بعد الآن، لأنه لا يستسيغ قهوة غير قهوته السواء، قهوته التي كان يشربها على أطراف المقاهي حيثُ يتكأ على الجدران، ويندمج بها ، فلا يراه أحد من الحاضرين، لقد كان له وجه قابع على أي جدار، وجه رسمته يد لا يعرفها ليكون له، هكذا كان يتشارك ذاكرته مع الغُرباء، ويشرب قهوته مع الجمع الذي لا يحس بوجوده.
كغريّب، يُسقى من نبعٍ يكشفُ عن جسده، عن ترقرقه بين الغابات، عن امتداده في النفوس، وعن أثره في كل سلالة تبني قاعدة لوجودها في الأرض، وترضعها الأرضُ ماءً زلالاً لتصيرَ لها أُماً، وسيّدة يعاد إليها بعد كل رحيّل أكثر.
كغريّب، لغته كراريسه وأقلامه، يشده ما يشاهده ليكتبه، لكنه يبني جسراً بينه وبين الكائنات التي رأى قُلوبها، فيبقى غريباً، لا يُحسن إلا أنّ يكتب، ومن الكتابة يُحسن ما عدى ذلك.
كغريّب، يفتشُ عن أحبابه، لكن كل حبيبٍ لم يتعرفه ؛ لأن الذاكرات تساقطت كورق الخريّف، ثم جلس مُنتظراً قدوم الربيع الذي رأى فيه جمال روحهُ، فترك للوجوه الربيعية الخريف الآتي يُعريها.
كغريّب عرفَ أن السفر وطنه، فلم يعد موجوداً في كل مدينةٍ يرحلُ إليها، إنه لا يُسافر، لأنه يأتي كمدينةٍ، ووطن، يأتي كغابةٍ، وحقل، كمنازلَ، وقرى لها حياتها الخاصة وهكذا كان العاهل دوماً .
يا عاهل آلام العالمين مُد يديك إلى قلبك، واستشعر فيما تُحس أوطاناً نامت عيونها، وبقيّت قلوبها تدين لك بالولاء .

تعليقات