يُصور الماضي للأوفياء
أنّ الدنيا لن تملكَ الصورة البهيّة التي كانت تتمتع بها إبان وجود الحبيب، وأنّ
وجهها المُنيّر أصبح شاحباً مُصاباً بالجفاف.
فإذا عرفوا ذاك، غرقت نفوسهم في ثورةِ الحزن؛ فيضيعونَ بين مد وجزر نفوسهم،
بينَ انشقاقها وغدوها ذواتاً مبتورةً لا هويّة تامة لها، وبين كونهم بعضاً من
ذواتٍ أخرى لا يستطيعون لها وصلاً!. يُقسم
كل شيء، أسمائهم، أوصافهم، ما أحبوه، وما كرهوه، فيصيرون شيئاً مما كانوا، ويفقدون
مع ذلك الذاكرة، فليست نصف ذاكرةٍ شيئاً من ذاكرة الماضي، إنها ذاكرة جديدة،
وبعكاز الوهـم، يبقون منتظرين، لأنّ أجسادهم وعقولهم تعودت على الانتظار. يبقى السلوك يدلُ على الذاكرة، لكنه أكثرَ ما
يُخمر عقلَ صاحبها عنها، فلا يعودُ يملك المقدرة على الإحساس بما كان، وتصيّر
حياته عمليّات سلوكية تستطيع أيُ آلة مُبرمجة أنّ تفعلها.
إنّ التغيّر الذي يعرفهُ
أولئك الأوفياء هي المشاعر التي تتقلبُ بهم جهةَ المشرق والمغرب، حتى تفقد مقدرتها
في فعلِ ذلك؛ إنه برزخ بين الاستسلام
للبقاء وفقدان الإحساس.
ما زلتُ أحب
الأماكن التي سكنتني كذاكرةٍ لها، كتاريخٍ وهويّة، لكني لم أك لها مُنتظراً، عندما
اختارت الصمت، رحلتُ عنها إلى أماكن أخرى، مهما كان الحُب، فإنّ البقاء في ذات
المواطن هو ما يجعله فاتراً، إنّ العالم الذي ينسابُ من جسديّ كلغةٍ، وككلمة للحب،
يعودُ سامياً، يُعرفني جوانبَ أخرى يظهرُ عليها الحب. هناك ما يجعل كل تلك اللحظات
الحلوة تعود، عندما لا أنتظرها في المحّال التي رأيتها فيه، فإنها تنعكسُ على
الأرض برمتها، ففي كل موطنٍ منها تقبع مشاهد، وصور رأيتها مُسبقاً ، هكذا أعود إلى
الابتسام عندما ألتقي نفسيّ الشاسعة في المُختلفات. وعندما أُحب فوقَ كل فارق، فوق
كل سببٍ، فوقَ هويّتي، وما أؤمن به.
سيبقى الحُب الذي يفيضُ بيّ يسقي العالم ،
ويسقي السعادة التي أراها في كل مكانٍ، لا يفقدُ ربيعه في عيني طيلة الفصول.
عليّ أنّ أكسر كل براويز الصور التي أمتلكها،
فلستُ محدوداً بصورة، ليست ذاكرتي لحظةً، وليسَ حُزنيّ موقفاً من شخصٍ عابر التقيته
في حياتي ثم صدقت أنهُ يحمل خناجرَ يغرسها في قلبيّ، بينما لا يستطيع كائن الوصول
إلى قلبيّ ؛ ذلك أنّ صورة المحبوب هيّ ما أصنعه أنا، لا صورة المحبوب ذاته، فكلُ
صفة فيّه هي رؤيتي عنه، هيّ تراكمي في الحيّاة، لا أنّ صورته هي التي تدخلُ إلى
الفؤاد ؛ إنها نفسي تعود إلى نفسي بشكلٍ آخر، ومع بروز ذلك التكشف، أتغيّر، وأغدو
أفضل مما كنتُ. مُذ كنتُ صغيراً، رأيتُ العالم جزءً منيّ، رأيتُ الناسَ جزءً منيّ
سواء كانوا يعيشون بالقرب مني، أو كانوا في الشوارع، أو في مُدنٍ لا أعرفها، أو
حتى على شاشات التلفاز، مهما كان اللسان الذي يجيدون الحديث به، مهما كانت السلالة
التي ينتمون لها، مهما كانت تلك التراكمات التي بنتهم، وجعلتهم يظهرون بذلك الشكل،
كل ذلك كان جزءً منيّ غيرَ أنّ من أحببته أكثر، رأيتهُ منعكساً على العالم، هذا
الانعكاس الذي تجلى نوراً في صدريّ يُضيء ليّ ما أسعى إليه بالبصيرة. أغمضُ عيني، وتمضي لي طُرق الكون ؛ الكواكبَ
والنجوم تدور وتسعى، تعودُ إليّ ، التائق الذي لم ينتظر أحداً قط، التائق الذي ظلَ
يترنم بأسماء أحباب نسيّ وجوههم وبقي
لأرواحهم أثر في نفسه. يا عاهل آلام العالمين، أتى الماضي إليك وتلاشى لأنه وجدَ
وطناً في صدرك، في قلبكَ خارج الزمن، في ربيعك المُمتد، وفي حُبك المنساب على
الوجود. يا عاهل آلام العالمين، من وحدتك
ظهرَ اجتماعك بالمُختلفين، ورحيّلك ما كانَ رحيلاً ؛ إذ غُرست في ما كان خالداً،
تنبضُ بكَ القلوب، وتحيا بك الأعيّن التي رأتك، ثم توقفت عن الرؤية بعد ذاك.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...