وطن يتسربُ من قلبي.






من الأوطان التي ذبلت في صدري تنبتُ " بذرة" لحيّاة أخرى، طريقة تسعى في جسديَّ، ونظرة ثانية للحياة.
من البذرة، تخرج عوالم مُتعددة، أحلام الناس تسعى بين يدي، وأسمع خطو تلاعبها في رأسيّ؛ كأطفالٍ يتلاعبون فرحيّن بالعيد، وبينما تدور الكرة بين الزروع، يتسابقُ الصبيّة ليكتشفوا مواطن جديدة تزيدهم حيّرة، فلا يعرفون من أنا، وأي جهةٍ أتوا منها إليَّ. 
تشرنقت الأحلام، وارتدت ثياباً جديدة، وبما يفصلُ اليومين، يتغيرُ كل شيء، تذوبُ أفكار في جدران غُرفتي، على رفوف مكتبي، وبين عناوين الكُتب التي أحببتها. تغيّب أشياء كثيرة بلا سابق إنذار، تخبئ الحُب معها في الأوراق، وعلى رؤؤس الأقلام، حتى ينزلق مع الكلمات، ومهما كانت تحملُ من ضوئه ما ينير لي ليلي، يوقد سراجاً في قلبي، فيتحلق شاخصون كُثر، يتسامرون، يبعثونَ بذكرياتٍ لم أعيها في حياتي، يصنعون من الحكاياتِ قوارب ليعبرون يميّ؛ يتوهون في غورائيّ، يغرقون في حُزنيّ، ويصحون على وقعِ " الفراغ" وقد امتدَ مّد البصر؛ المكان الذي يخرجونَ منه كيومِ ولدتهم أمهاتهم، بذاكرةٍ أخرى، بمواقفَ، وأيام لم يعيشوها، وبأحلامٍ من الضيّاع الذي أتخذ له درباً مؤخراً. يتحلقُ المكان خلفَ ذاكرته، لكنه لا يرى شيئاً، لا يسمع صوتاً، ولا يعي بأيِ مكانٍ هو، وعندما يستشعرُ ذلك، يفقد الشعور في كل أمرٍ آخر، ينكفئ على ظلِ المصابيح، مُنتظراً ، و يقفرُ وجه المدينة عن الإدلاء، حيّن تتوهُ " الكلمات" لا تعود الأحلام قادرةً على المسيّر، إن جسدَ الحلمُ كلماتٍ تبنى وجوده في القلب، ثم تجعله في مواجهةٍ للعالم في صراع بقاء، يُكون صداقةً عميّقة بين خصميّن يولِّدان رابطة متينة، تبعث بالجمال في مكنونات الأشياء. إنّ الحلم مُخبأ خلفَ تلك اللمسات الحانيّة، وفي المظاهر؛ خلفَ قطع القماش، بين العمائم، و الجُبب . بالابتسامات، وبالدموع أيضاً، بالأصواتِ الرفيّعة والخفيضة على حدٍ سواء؛ يتشكلُ على مقاس الوجع، ويأخذ شكلَ القريّة، موقد الحيّ، صوت الجدّة حكايِّة القصص، بين الدروب التي تقطعها الريّح في كل يوم، وفي مدى كُل مصباحٍ يُضيء جانباً من المكان الذي يُشكل وجهه تبعاً لمساحة الضياء. أتوقفُ قليلاً، وأشد إليّ فيما أراهُ لتأخذ المدن شكل قلبيّ، فأرى ذاكرتي ساعيّة في الطُرق، معلقةً على النوافذ، حاضرةً في المكتبات، وعلى المكاتب المليئة بالأحاديث اليوميّة، بالصُحف، ومع ساعي البريد، في المقاهي، وبروائح القهوة التي تُشعل الحنين في الأفئدة الراحلة.  أرى القرى تتراقصُ في المحّال، بالدكاكين، وعلى مقاعد السيارات التي تحكي قصةً بأصواتِ طنابيرها.  ثم يحلُ صمت ينقلُ المدينة إلى برزخها، فتذوبُ المشاهد في كوبِ قهوتيّ، تسيحُ في انعكاسِ وجهيّ بالأكواب. أزدادُ صمتاً، أفصلُ نفسيّ عن العالم، عن كل آخرٍ سكنني، عن ذاكرتي، وسلوكي، وأكتبُ تاركاً بعضيّ للناس، في الصورِ، بالكلمات التي كتبتها ولا أتذكرها، بالضحكات التي كانت حاضرةً، بابتسامات الصمّت، وبرحيلنا حين نلتقيّ، وكغريّب يرسلُ تحاياهُ لعائلته، لوطنهِ، لمنزله، ولحبُه الذي أوشكَ على التخشب، محملاً الرسائلَ رائحة الخُبز، عطرَ الأوطان التي سافرَ إليها، وكل ما يُشبه ما كان يعيشه في الماضي، لكنه لن يعيشه مرّة أخرى؛ كهذا الغريب، أُقيّد " الذات" للكتابة، حتى لا تنفلت، وتحيّل كل ذلك الواقع إلى رماد، حتى لا تمتد كأمواجٍ ضخمة وتنهي وجود كل ما حولي، أُخفي ما يكون، وأحكي عن أحسن الأحوال التي لم أعشها، أزينُ الأيام بأرديِّة جميلة، يبدو كُل واحدٍ منها في أحلى حلّة، وأجمل طلة؛ ككاتب رسائل يعي أنّ من يقرؤونه لا يمتلكون القدرة الكافية ليفهموا ألمه؛ فيشاغلهم بأفراحه، كمهرجٍ باكٍ يُضحك رواد سركٍ يخنقه للصميم، ويجعل غيّره يتنفسُ الأفراح في بقيّة يومه. قرارُّ حكيم أن تبيعَ فرحاً مُعلباً للكائنات، أن تظهرَ جانباً مُشرقاً لا ينتمي لبقعةِ الظل التي تقبع خلفه، ويستعرُ منها؛ كزهرةٍ تعزلُ نفسها عن كُل الأحجار حولها، وتبقى صامدةً جميّلة أثناء كُل هذا القحط. عليّ أن أكتب؛ أغيثُ القفار في جسديّ، المواطن التائهة، والأفئدة الساعيّة بي. عليّ أن أسهر، و أواصل الاستيقاظ حين ينام الجميع، حيّن يُحرك الهدوء في فؤاديَّ زوابع تتحد لتكون عواصف تهز فيها كُل ما تمر عليّه؛ وإذا هرَّب الجميع، أقف حتى يعودُ صوتيّ ليّ؛ أحاديثيّ، كلماتي التي كتبتها وسقطت في دوامات الضجيج، حتى تعود الحقول التي لا تُطيق فراقيّ،  وتتراقص على كفيّ الأمنيّات وأصيّرها واقعاً مقروءا، تعود نفسيّ من مكتباتي، تتسرب من كُتبي، كلماتيّ، أوقاتي الصامتة جداً ؛ المليئة جداً بالصخب، من صوري التي أصبحت دقيقاً لكعك أعيّاد ميلادي الكثيرة، للشمس التي أشرقت منيّ، للقمر الذي نبتَ من وجهيّ ثم أستقرَ في السماءِ رفيعاً ينثرُ خيوطه على الكائنات فترى بعيونها ما لم تقدر على رؤيته قبل ذلك، لكل التفاصيّل التي تجعدت، وبدأت بالتقزم، بالعودة للطفولة، لمرحلةٍ لا تستطيع فيها أكل الكعك. الآن أقف وتسعى إليّ مجرات الكلام وكذا نجوم السكوت، أغلقُ عينيّ فلا أرى أحداً سوايّ، ولا أسمع إلا أصواتاً خرجت من صوتيّ؛ أقواليّ التي أصبحت أشجاراً،  أصدقائيّ الذين رحلوا مع الخريّف، وتهادوا للسفر، مع الأوراقِ الذابلة، وبدون تأشيرات خُروج لن يعودوا أبدا؛ لأنهم لا يملكون جواز العبور للوطن الذي هجروه، لا يمتلكون ذاكرة تؤهلهم للوصول، ولا قدرة على أنّ يُغيروا جلودهم حتى يستطيعوا التخفيّ، فكلُ الأقنعة ذابت مع ذا الرحيّل، وصارت الوجوهُ عريَّانة من مساحيق الكذب والخداع، مؤلم لهم أنّ يطرقوا أبواباً لن تفتح، أبواباً لم يعد خلفها الفؤاد الذي عادوا إليه في المدلهمات؛ لقد عادوا لكنهم لم يعلموا أن ذلك القلب رحل إلى مكانٍ بعيّد، لن يستطيعوا وصولاً إليه. تتوه الأماكن، وتبقى الدكاك وحيّدة بلا مُتكأين، تفقدُ دفئها شيئاً فشيئاً حتى تُصبح صقيعاً دائماً طيّلة الأعوام؛ لكنها ترمى في مواقد التدفئة لتزيّد من التصحرِ في أجساد المُجتمعين. مُذ زمنٍ بعيّد افترقنا، من الوقت الذي أصبحت فيه أحاديثنا مُُنتهيّة الصلاحيّة و مكروره، مُذ صِرنا نجتمع تاركيّن قلوبنا في الخارج، مُذ فقد الشاي مذاقه وأصبحَ دماً يستقيّه مصاصو الدماء، مُذ لطخ الشايُ أسماء المقاهي، وجعل لها أسماء أُخرى، عندما توقفت ذاكرتيّ عن التراقص، وقلبيّ عن الدوران، الآن، لا أستطيع أن أسمع شيئاً، أرى أفواهاً تتحركُ بلا صوت، وأرى أفئدة تنبضُ بلا صوت، بلا حيّاة، كمضخةٍ تدفع الكائنات للبقاء على " مضض" ؛ على الهامش، أو في القمّة، بينما لا هامش ولا قمة. أجلسُ منتظراً في المطار الذي لا تمرُ من أمامه الطيور المُهاجرة رغمَ أنهُ حاوٍ لملاين الأعشاش فوقه، وبينما تتناغم أصوات الراحليّن، تذوب أجساد الكائنات في التفاصيّل، تصبح مخروقة كقطعٍ فنيّة سريالية،  أو كرسومات رصاصيّة لطفلةٍ ترسم لهفتها لأبيها، كقهوة عابّر حط كبقةٍ إلى هجرته، وراح يُلقي تحيته على قبره قبل أن يزور العائلة. يختلطُ الأطفال بأصواتِ أبائهم، وتتنقلُ الأمهات كمنتجعات فاخرة تُحقق الراحة والرفاهيّة لأفراد الأسرة، ومن المطارات تهبط ذكريات القادمين، تختلطُ بالأرضيّة، وتعطيها ألواناً وروائح من بلدانٍ ومدائن شتى، وكما أشمُ رائحة عطورٍ فرنسيّة، تنتشرُ رائحة القرنفل بالأرجاء، تنبعُ من حجابِ عجوزٍ مُدثرة بالنور تمشي الهوينا، وتتركُ خلفها حقولاً من الكرامة والسكينة. ومن على أعتاب المقاهي والمطاعم تجتمع البسمات، والعيون التي تحبسُ دموعها عن الهطول وكأن شيئاً لم يكن يناقشونَ موضوعاتٍ كتبت على صفحات الجرائد، وعلى لوحات الإعلانات، شيء يقضي باقي الوقت بمُتعة، حتى يحلُ الفراق. أتيتُ للمطار، وفي كُل مقعدٍ في طائرة كانت هناك رحلة ليّ، أماكن عديدة تفتحُ صدورها كطريقة تحيّة مُبتكرة، وتبتر أيديها حتى لا تبقى إلا يديّ، أتيتُ للمطار، وطار الجميع بعد إذ استأجروا أجنحة الحديد، وبقيتُ يترددُ صوتيّ في المدى، وبعضيّ شتيتُّ في مواطنَ كثيرة. يعتقدُ كل راحلٍ منهم أنه ذاهب إليّ، لكنه لا يلقى إلا شيئاً يسيراً؛ صوراً، وبعض أوراقٍ، و ملاءات، وربطات عُنق، عباءاتٍ ارتديتها، وعماماتٍ تطوي أعمدة إنارة فيها، طاولاتٍ، وأكوابُ قهوةٍ صاحبتني حين كتبتُ، وأبخرة تملأ مكتبي برائحة القهوة المُختلطة بالحبر، بالشعورِ المكنوز في دفتري؛ يذهبون إلى مدنٍ كثيرة، وهذا ما يجدونه صورةً عن حياتي، شكلاً لوجهيّ، وابتساماتٍ تركتها خلفيّ في كُل مكانٍ ارتدته، لقد وصلتُ لكل بقعةٍ في العالم، فمذ تجلت الكتابة بيّ، كنتُ ساكناً في كُل أرضٍ " بالعالم" ومُذ أحسستُ بتوسعيّ، بامتداديّ، وعيتُ العالم جزءً من جسدي؛ حتى تجلى حُلميَّ كفلقة صُبحٍ طالَ فراقُ المشتاقين له. أضمُ ما كنتهُ، ويلحقُ بيّ ما أصبحتُ عليّه، ثم يجتمعُ الاثنان خليطين يبثان صوتيّ في النفوس الباحثة، ويجليّان صوريّ في كُل بقعةٍ تَحنُ لعودتي.  يعلقُ بيّ أثرُّ للطبيعة؛ مُختلفاتٍ ومتناقضات تتصارع فيما بينها ليسّود أحدها؛ لكن كل ما يحدث أنها تُدمج لتكونَ شيئاً مني.  للذبولِ صورة جميلة، فالخريّفُ رغم ما يُخلفه في الأرض، وفي النفوس الموسميّة، صورة حُسنٍ وعلامة صحة، وبقاء.  أحملُ حقائبيّ، أشيائي المُبدلة، والوجوهُ التي أحبرُ بها الأوراق، هكذا تصيرُ صوراً مقروءة، صوراً تعجزُ عنها كُل الأضواء المحبوسة في العالم. أُغلق المشاهدَ، وأرميّ بصائحفِ الآخرين في الموقد ليتدفأ ، فتتسلل روائحهم كعقبِ سيجارٍ كُوبيّ فاخر، لم يتسنى ليّ أنّ أشمه، ثم جاءت نهاية به، حتى أزداد بُعداً عن هذه اللحظة التي تتخذُ زاويةً لتكونَ ظِلاً، أو فضلاتٍ للموقد الذي أحرقُ فيه ذكرياتيّ الآيلة للسقوط. وطنُّ يحبو في صدريّ، ليلُّ يتأرجحُ في الشارعِ الخلفي لمنزلي، ومدفئةُّ تبثُ البرّد إذا شاهدها طالبُّ يتعرفُ على عطبها. هكذا أُغلق درباً، وأسلكُ أخرى ، وينفذُ من الصمت نورُّ عالق بمؤخرة ركبٍ بلا هوية، متردد بين المثولِ أمامي، وبين المُضي في أرضيّ الفسيحة، يا عاهل آلام العالمين، تناثرت ذكراك لتجمعَ الكائنات إلى صدركَ، لتنسى، وتبدأ من جديد طريّقة عيشٍ أُخرى.

تعليقات