غصن الزيتون في جسدي




.
.

أرغبُ بالتوقف قليلاً؛ أنّ أُضيّق حدود نفسيّ، وأبني الجسور، والقلاع، أرمي بذاكرتيّ، بالقرى، والمدن، بالحدائق، والرمال، خارج حدود قلبيّ؛ فلا يبقى شيء، ويصيرُ كل من عرفني وطناً، تائهاً، مُشرداً كلاجئٍ غريّب حط في عالمٍ ينكفئ على إعطاءه كِسرّة خُبزٍ مُتيبسة، ويرميها لسلال المُهملات تقضم ما تبقى منها بالنتن الذي يعلوها. شيء ما يُغيّر الواقع فيصيرُ النتن عِطراً، وتصبح المياه الملوثة نقيّة جداً حيثُ لا يوجد سواها، وتمتلئ قشور البُرتقال بمذاقٍ جيّد بينما لم تك إلا مرّةً في يومٍ من الأيام، إنها تملك مذاق ألذ الكعك، وأجمل الحلويات.

مُذ زمنٍ بعيّد، كنت أفضل الشوكولاته المُرّة على تلك الحلوة، لأني اعتقدت أن اللحظات الجميّلة كفيلة بأن تعطيها ذلك المذاق، ولم أرغب أن يزداد لحدٍ لا يُوعى به مذاقها، وكنتُ رغم ذلك أشرّب المشروبات مُحلاةً بالسكر، لقد كان يُغريني منظر مُكعبات السكر، وهي تذوب في أكواب الشاي في المُناسبات أكثر بكثيرٍ من أحاديث الآخرين، حتى جاء وقت أهتم فعلاً بما يقولون، إنها اللحظة التي تذوبُ فيها الأحاديث كقطع سكرٍ في جسدي، ثم تفترق، فلا أعي لها مكاناً رغم أنها قريّبة مني جداً.

أريد الانفصال عن هذا العالم، أسحبُ صوريّ من كل ذاكرة، أسرح أيام وساعات الانتظار الطويل إلى غيّر رجعة، وأعطل كل مواعيّد السفر، وأحرقُ كل الهدايا التي تصلني دوماً عبر البريد؛ أُغلق البريد، أستبدلُ اسميّ، وأبتاعُ ليّ وجهاً آخر، ثم أدخلُ بين الحشود، وأذوبُ في الضوضاء فأكون الحشد في صورته السامية.

أعرضُ علاقاتي على قطعةِ شطرنج، وأجعل من الناس فيها جنوداً، وقادة، ثم أصفهم على هامشها بلا صفاتٍ ولا هويّات، أعيّد ترتيب الرتُب، وأعيد الكرة من جديد، ومع كل قطعةٍ تسقط، تتطاير ذكريات مُتيبسة وقابلة للانكسار في الهواء أمام الجميع، ويتعلقُ بعضها في كوب الشاي أمامي.

لا أتوقفُ أبداً، أتسارع في المضي أمام الآخرين، حتى لا يلمحني إلا من عُكست صورتيّ في قلبه، يراني طويلاً وقد وصلت إلى ضفةٍ أخرى ما كنتُ عابرها قبل إذ؛ من هُنا تتغير السحن، وأرى في الوجوه مجرى ذكرياتها، وفي الأجساد خفة وثقل، أعي الطائر من الناس، والجاثم على وجهِ الأرض، السباحُ الرشيّق، والآخر مُتشبثاً بقشةِ وهمه، بتاريخه الجاثم على صدره كغصص متتالية، وكسلاسل من أصواتٍ تتبعه في منامه، في مسيّره، وتوجهه ليكون آلتها المُطيعة.

كنتُ أظن السنين مرّت فإذا بها تبدأ، وكنتُ أرى الحبُ مبتعداً حتى وعيتُ ذاتيّ الحب كيف تصبُ شلالتها على العالم وتسقي القفار لتصبح جناتٍ وواحات، ثم سلوتُ عن ذلك إليّ بلا معانٍ تصفني، كنتُ أسيّر إلى الفراغ، بلا ذاكرةٍ توجهني، بلا أنماطٍ تقولبني، عُريّاناً من وهميّ، مملوءً بجمالٍ لا أعي فيه حداً، ولا شيءً يميزه؛ إذ تختلطُ الأشياء فلا أتفحص ما لا أعيه ولا أعرفه.

وكطفلٍ يتعلمُ الكتابة أبدأ في رسم الطرق التي أسلكها بالكلمات، الشوارع التي أمر من أمامها، محّال الشاي، المآذن، قهوتي وأكوابها، القصور التي أستقلها حيّن أزور المدن، والأشرطة الحمراء التي تفتتح بها مُدن جديدة، الشمع الأحمر الذي تُغلق به المكتبات إذا زرتها للقراءة، الأحاديث المُعلبة، والأخرى التي تتطاير في الهواء كحبات رملٍ مُسافرة، الأخشاب التي يكتبُ بها العشاق كلمات الحُب، وليسوا بكاتبين، والقصائد التي تُلقى عليّ إذا جاء العيد، وبدأ العالم يوزع حلوياته باسمي.

من ذا الحد، من البعد الشديد، أزدادُ قرباً، وأسمع نبضات قلوب المُتحدثين ليّ، وأرى في عيونهم الأحلام تسعى، ثم ابتسمُ ليّ؛ إذا رأيتني في المرآة فكل آخرٍ بيّ بادٍ عليَّ، طالع كغصن زيتونٍ يعكسُ نور الشمس وكأنها قد أشرقت منه للرائي.

الضوء زوادتي لذا السفر، يصلُ بيّ إلى بقاعٍ كثيرة في آنٍ معاً، فأعرفُ أجزاءً ليّ، وأجري مُحادثاتٍ مطولة مع نفسيّ، مع العالم المسكوب على قارعة الطريق كدموعٍ تتلاشى لتسكنَ الحزن القليل بعض الأشجار بالجوار، بعض الأغصان التي تورد للبقاعِ أحلاماً هاربة، وأوقاتاً غادرت من صالة الانتظار أخيراً بغيّر رجعة.

تعليقات