موعد غرامي مع الكتابة





                                                                    






في كل موعدٍ للكتابة عليّ أن أتجدد على نحوٍ ما، وأغير شكل وجوديّ على هذا الكوكب؛ لأخرج بصيغةٍ مُختلفة لم أقرأني بها قبل الآن، وكالمواعيد الغراميّة، أتجهزُ لتلقي كم كبير جداً من قُبلات الكلمات، ومن تحايا السطور التي تلتفُ حوليّ كمدارِ الجدي، وكناسكٍ لا يعي أين يولي وجهه، وفي دربهِ سعيُّ إليه، وفيّ حين أبدأُ بقرائتيّ من وجوهِ المحلات، وفي  الحروفِ التي لا تعبرُ عن شيء إلا أنها تدلني إليّ ... ثم وبخصوصيةٍ أكبر،
أفتشُ عنيَّ برفق السابق الذي يتراكم مع قطع الأثاث القديمة، في زاوية البيت التي لا يزورها النور، وأحياناً على أرفف مكتبتي التي هجرتها الكُتب، وفي خزانة ملابسيّ العلوية، وفي أماكن كثيرة أعرف أنها قريبة جداً، لكنها رغم ذلك ليست موجودة فعلياً، هذه المواد المهملة، والتي لم تعد لها أهميّة إلا أنّ تملء ذاكرتي، وتدجن الأحداث الساعية في جسدي، تبدأ بالخروج شيئاً فشيئاً لتقضي الوقت معي أمام التلفاز، أو في دور عرض السينما، أو في الشوارع المتراقصة على هدى الكلمات التي نحكيها لبعضنا، أو نريد حكايتها للآخرين. عليّ اثر ذلك أنّ أرتدي أغلى الثياب، وأزودها بربطات عُنقٍ فاخرة، وفاقعة لأشدني إليّ بعنفٍ وأنا أكتب، ولكي لا أندلقَ بين السطور فتمتد كسكةٍ قطار تُغلف العالم، وتسحب كل الطرق في رحمها... يتوجب عليّ أن أكون أكثر تماسكاً، وبينما أفعل كل ذلك وغيره، لا تزال الكتابة حانقةً بغليون قديم مُطعم بالألماس وببعض الجواهر الهندية القديمة، وتضيقُ ذرعاً بتأخري عنها، تدخن بشراهة، وتضرب برجليها المكسوة بالأساور الذهبية الأرض، وتنظر في صحيفةٍ ممزق جزء من صفحتها الأولى كأنها تقرأ تاريخها الذي لا تعرف عنه إلا هذا اللقاء المتكرر كل مرّة، وفي كل يوم، بطريقة خالية من الرتابة، وبينما يتوجب علينا اللقاء، لا نلتقي بنا، بل بكائنات، وأماكن مختلفة، وبينما تصطف الكرة الأرضية في طابورٍ طويل من كلماتٍ وجمل، نتناقش بعمق، وبعنفٍ أحياناً عن أحد المعاني التي يتوجب عليّ كتابتها. مرّة ثانية، عليّ أن أحبك، وأقوم بمراسلتك مراراً، ألقي التحية في الصباح، بينما يتوجب عليّ أن ألقي تحيةً أخرى في المساء، هذه موضوعات كثيرة تزرع وجهيّ على الورق كيرقة نورٍ تفتقُ صباحاً لنبضِ من أحبَ، ثم قرأ ما كتبتُ، وربما في حالةٍ أخرى، تبدو الأوضاع قاتمة لحدٍ كبير، وتغيّب التفاصيل، فلا يبقى إلا الغرام، مسطراً، ومسيطراً بصورته المتغنجة على ضفافِ الهويات التي فقدت ملامحها... وربما، فيما بعد عليّ أن أرحل من هذه المساحات؛ لتتشقق وتتعرض للخسف، ثم تهاجر من تشققاتها قطع البسكويت حاملةً متاعها، وزاداً لا يكفي لنظرة طائشة، وحروفاً تخصف عليها من الشبابيك، والأبواب المحطمة، لكنها تبقى عُريانة في عيون الجميع، غريب أن تكتشف أن ذاكرتك أهش من قطعة بسكويت مغمسة بالشوكولاتة، يمكنك أن تنسى بسهولة هكذا حتى نفسك المتهالكة على ما أحبت، لكنها ذاقت به ذرعاً ثم ودعته هذا ما كتبته لكني لم أعد أشعر به كما كنت في الماضي، لا يغمرني شيء، ولا أحس بأن ذاكرتي مخرومة لهذا الحد، لكن الآخرين هم الأهش من تحمل البقاء بها ككائنات يقتلها الضوء، أو كفصيلة دميّ التي لا تقبل أي فصيلة دمٍ سواها، مع أنها كريمة عندما تقدم المساعدة. ربما، من ذلك المنطلق الخافت، تتلاحقُ أفكاريّ حيثما يسكنني المكان، ومن صداهُ، يعود إليّ دبيبٍ يغيبُ في الصدى صوته شيئاً فشيئاً حتى نظن أنه غابَ..وما غابَ إذ قلوبنا تنبض، نلتقي على وقعِ أقلامنا، بخدود الأضابير، ثم نكتب بعيوننا القصة التي نريد، تختلط الصفحات إذ تترامى المكتبة بعضها في حضن بعضها الآخر، تذوب العناوين كبوضةٍ بطعم التفاح في فم صبيةٍ جميلة تلاعبُ الريح بالمظلة، وتكتب الريح على المظلة بعض تباريحها، تعلقُ فيها دبق الرمال، وأثراً من جمر الشتاء عِطراً يدفءُ الوسائدَ والدوالايب التي ما عادت تدور. عندما أعودُ إليّ، أذهب إلى مكتبيّ، أفتح صدريّ درباً إلى جنتي، أعزلُ عن العالم لأجمع إليّه، ويتبدا ليّ كتطبيقات -آيفون- ففي كل موضوعٍ تطبيق ألج منهِ إلى حيّاة أخرى غير الحيوات التي أعرفها ثم في لحظةٍ أخرج من هذا التطبيق إلى ذاك، وأتنقل بين المجرات، والأراضين، والكلمات، بكل يسرٍ، أحذفُ من ذاكرتيّ ما أشاء، وأضيف لذاكرتي ما أشاء، ثم أعود لأكتب بصيغةٍ مُختلفة تبعاً لكل مرحلة تمر بيّ، لكني رغم كل ذلك...لستُ إلا سراباً تجيءُ إليه ولا تجده، بالرغم من أنه قريب...قريب جداً، في منطقة معزولة كهذه، يمكنني الرؤية بمناظيرَ مختلفة، وتتحول أقلاميّ إلى مستشعراتٍ للمعاني، وصحفيّ إلى مغناطيس تجذبُ يديّ لتكتبَ، ولا تتوقف عن الكتابة، ثم يزداد الحُب، ليعيثَ في الأرضِ الجمالَ، ومع كل ذلك، لا يوجد للقراء أيُ مساحة منيّ، فهم غائبون تماماً، مع أنيّ من يتصل بالأشياء وتنسجم معه كجسد، ثم تترعرع على صورٍ عدة، كنباتات، ثم ككواكب ضخمة، تتضائل عندما تمرُ من خرم ابرةٍ صغيّرة، لكنها تعود أصغر، وأصغر، لا توعى بالمجاهر الدقيقة... حركة كونيّة مُتكاملة في حبة رملٍ عالقة في يديّ، تدورُ في نظاميّ الشمسيّ، وتختلط بالهيمو قلوبين الخاص بيّ، ثم تُضخ كجملةٍ في نص ما.. قُرر له أنّ يولد الآن، ويولد ليّ وجه آخر يسعى في كونهِ إليّ ونلتقي على الأرصفة التي تصبح مقاهٍ للزائرين، وتُمسي موقداً للهاجعين، ودفاترَ للكاتبين. لا أحصي عدد المرات التي تتحول فيها الأشياء لتكون أوراقاً أكتبها، منزلنا، بهو الجامعة، قاعة الدراسة، و عينيّ أستاذ اللغة العربية، والسبورة التي تصبح حِبراً فريداً، يحول كل كلمةٍ تكتبُ إلى صورةٍ ترى. مكتبي نامٍ لحد كبير،  فهو في كل جهة، بالرغم أنه خالٍ من كل جهةٍ أيضاً فليسَ إلا في قلبي. عندما أحبك قلبيّ لم يعد يرى سواك، وعندما لم يرى سواك، لم تعد غيره، هكذا أبدأ مرّة أخرى، بصوتٍ آخر، لنبع الحب في قوليّ حلاوة، وفي صمتيّ مبهجاً يرنو لقاءهُ فيك يا بضعةً مِنه. قلتُ: وقالت الأقلامُ: هيا نزور المواقد، نبذر فيها قوافِ القصائد، لتخرجَ جنتها طيوراً من جذوعِ المرافئ، وطناً من سفر. 
يا مُسفراً في القلبِ موضعك، وفيكَ ما يأتي وما يترحلُ ، ألا شعراً يجمع قلبينا فنفترقُ في الوجوهِ الصابئة، وفي اللخظات العابرة حين لا تعبرُ . 
يا عاهل آلام العالمين، كتبتكَ في كل حُبٍ ينمو حتى تجيءَ من خمرِ القصائد مخدعَ، ومن حروفٍ في الضئالة تجمع موجعها يُمد صوتكَ الغافي شمساً تضيءُ في العيونِ طريقاً إليك، وفي الطريقِ جنتك وما يوعدُ الصادقون. 
يا عاهل آلام العالمين، أغمض عينيك ترى في قلوبِ من أحببت موضعك يزدادُ نماءً، ويتصلُ بيديك التي ما توقفت قط عن الكتابة. 
يا عاهل آلام العالمين، أصمت تتفجرُ من صدركَ ينابيع ساقيّة، يترافقن الصبايا إليكَ أدباً يقيمُ صلبك جمالاً، ويُطَلِّع وجنتي ضِلعك مزارُ العاشقين... 


تعليقات