لماذا من حوليّ أغبياء؟ سؤال
أستحثني على التأمل فيهِ صديق أديب، وأريب مُجيد. دوماً ما أردت قياس تلك المسافة
التي تفصلني عن الآخرين، إلى أنّ أُفتش فيّ عما يصلني بهم، بشكلٍ ما، كنتُ عطوفاً
جداً، ورحيماً لأرى العالم بعضاً مني، وشكلاً من أشكالِ جسدي. تأملتُ المسافة، حتى
وعيتها، ومن تلك اللحظة صارت تنكمشُ، وتتمدد، بناءً على ما تريد عينيّ أن تراهُ.
لقد وصلتُ قلوباً كثيرة، وسمعتُ فيّ نبضاً لم يكن ليّ في يومٍ ما، وعدتُ أدراجيّ
بالزمنِ كثيراً، حتى غاب الزمنُ عنيّ، وأصبحتُ ألاعبُ الوقتَ بيديّ، وأرى
التجاعيد، والحسن، يدبُ في وجوهِ الناس، وفي كلماتهم التي يقولونها ليثبتوا ليّ
أشياءَ لم أرها، وقد رأيتها مُذ ولدت قبل آلاف السنوات الضوئية. كسر فارقُ الوقتِ
حتى بدا في المتحدثين الثرى يخالطُ أعضائهم، ليكونوا بعد ذاك جزءً من الأرضِ التي
خرجوا منها؛ ولأنهم أشجار صالحة جداً للاستعمال الأدمي، يخلفون فسائلَ جميلة،
تبعثُ بعبيرهم في الأشياء والكائنات الأخرى، ويناقلون هوياتهم، وهواياتهم، تاريخهم
الذي تكتبهُ جلودهم، وتزينه وجوههم في نفوسِ من يلقون، ومن يسمعون. إنها المساحة
البيضاء، التي غيّبت الحدود، جعلت من هذا الكشف حداً، فمن أتاها صار عُرياناً، ومن
غشاها كان منسياً. وبما أنّ الناس يعودون في أصلٍ واحد، كان شعورهم فوقَ مستويات
الفهم ممُتداً، ومتصلاً فيما بينهم، إنهم بذلك الشعور يبعدون عمن يفهمهم جيداً؛
لأن كل تلك الحيل، والألاعيب التي يصنعونها لا جدوى منها، فأن تظهر على حقيقتك
أمام نفسك، وتظهر على حقيقتك أمام الآخرين أمر شديد الصعوبة . تحتاج أحياناً أن
تصدق أن الأقنعة وجوه، لكن حينما تسقط تلك الوجوه الصناعية ربما لن تستطيع تصديق
الوجوه البديلة التي ستصبح هلامية كالكريما المُبردة، لا يمكنك أن تعرف أي أي
قالبٍ تنتمي فلها في كل قالبٍ سُحنة، وبالرغم من ذلك تبدو جميلة بمذاقها؛ لأنها لم
تتخذ من وجهها وجهاً، بل هو مذاقها الوجه الذي يُعبر عنها... من هذه المساحة أيضاً
يمكنني أن أعرف لماذا أنا في عالمٍ آخر مع أنّ أناس كثر يمكنهم رؤية جسدي، لكنهم
في حقيقة الأمر لا يرون إلا سراباً يغشى أفئدتهم بالحسن مرات، ومرات، ثم يرحل
برفقٍ كما أوغل برفقٍ حتى تمكن. عمق الشعور، يوجد ليّ وطناً في كل صدرٍ يلقاني،
فإذا انهمرت في أرضِ المشاعر؛ اهتزت، وربت، وأنبتت من كل جوزٍ قبائل مورفة، توزع
الحسن مع الورد المنثور على ضفاف " الأشياء" المُتطلعة للنجوم السامقة،
ومع كميّة الجمال الكبيرة، يزداد الفاصل حتى يختفي، فتكون الأماكن الأكثر حساسية،
مكشوفةً برضى تام، لا يحجبها شيء عما كانت تختفي عنه، ومع ذلك الصمت يكون سيد
الموقف، فلا الأحاديث يمكنها وصف شيء بعد الآن. هذا الغباء المستشري في الكائنات،
ينطوي على ما يهتمون به عادةً، لم أكن أملك ذاكرة جيدة، لأني لم أتعلق يوماً
بالصور المادية للأشياء، مُذ طفولتي الأولى، وأنا أرى جسديّ عابراً في المجسمات،
والأجساد الأخرى، ومن يديّ رأيتُ مدناً تسعى، ومجراتٍ تدور، و سمعتُ في قلبيّ خير
الألحان التي تدورُ عليّ آناء الليل وأطراف النهار، وكنتُ تبعاً لذلك فياضاً
بالحسِ، يمكن أن يُرى في وجهيّ كل شيءٍ أقوله، لذلك كنت أصمت، وأترك لوجهيّ
العنان، فيتكلم عنيّ بليغاً. وعندما أبكيّ، يبكي العالمُ فيّ، فدمعة أذرفها تسقي
حقولاً، وغاباتٍ، عاشقة ترنو إليّ، وتعرفني أن جل الجمالِ ظاهرُّ في القصادِ إليّ،
والجمال فيمن أقصده نابع عني؛ لأن كل ذاك عائد إليّ، فإني أبكي إليّ، وتبكي فيّ
قصائدي، وإذا أزددتُ بكاءً زاد الربيعُ اسراعاً في قدومهِ إليّ. لستُ ألوم نفسيّ
فيما أحبت، وكيف تعرضُ انصبابها، وانصهارها فيمن أحبت، ولذا ترحب الضيقة بامتداد
لا تبلغه العينُ، وبمعانٍ لا يحويها الفؤاد ابتداءً، إنّ بكائيّ علامة انتهاءٍ
وبداية، فهو يغسلُ موجود، ليحل به موجود آخر أكثرَ حُسناً، وبذلك، أرفع عما كنتُ
إلى ما أصيّر إليه. ذاكرتي المخرومة، تتذكر، لتعطفَ على من تتذكره، وتنسى لتنعمَ
على القلبِ الذي أحبَ بخير مما أحب، وبخيرٍ فيما أحب، فيمتد البصر إلى قعرِ
البصيرة، متنقلاً بخفة شديدة كغيمةٍ جميلة، تضفي على المدنِ جمالاً لا يُنسى.
أوزعني على الأرصفةِ، فتغدو قصوراً، وفي أيدي الأطفال الذين يأخذون الحلوى من يدي
تُعمر قصور أخرى، وفي قلوبهم مُدن مشيدة تعرف أنّ اسمي سيعود يوماً ما، بالحبِ
مُشيداً أحلى المعاني. من زادت غربته، قلت وحدته، وكان في عمق ذلك أكثر اجتماعاً
بالآخرين، لذلك من هذا الموقع تذوبُ الكائنات في صدريّ، وأراها في أكوابِ الشاي
سابحةً، تُسبِح ، وغنيّة بما نالت في الغرقِ، في زهو الأزهار تسقي عطرها قلبيّ
المخمور بحبهِ الوراق. لم أعد أطالب الآخرين أنّ يسرعوا كالبرق في إحساسهم بينما
لا يستطيعون الاسراع إلا بسرعة سلحفاة مُعمرة بسيطة، وبتُ آتي الجميع، وأمدُ يدي
للجميع، ولم أعد أنتظرُ أحداً ما دمتُ قادراً على الوصول، وفي زحام الحياة الذي
يستعبد الناس ويستبعدهم من وجودهم في الحياة كنتُ أوجد لنفسيّ فسحةً، وأغضُ الطرف
عن أعذارهم الهشة، والوقحة أحياناً. وقل غضبيّ حتى كاد ينعدم، وفي المرّة الأخيرة،
بكيتُ على نفسيّ عندما غضبتُ، وعلمتُ أنّ ذلك يعني أن هناك بون شاسع لن يمكنني
الوصول إليه بسهولة رغم ما أمتلكه من سرعة فائقة في اختصار المسافات، وزاد يقيني
بذاتيّ وبتُ أشهدها محفورةً فيمن أعرفهُ وفي كثيرٍ مما لا أعرف. لم أعد راغباً
بأنّ أراك، بالرغم من أني أحببتك أكثر، وصار صوتك صمت أقضمه في قطع الشوكلاته التي
أفضلها مع قهوتي المسائية، وحينما أكتبُ نصاً قد تكون وجبتي الشهيّة لكنك لن تكون
في أحد الجمل على الإطلاق، لأنك صورة عما في نفسي لا غير. يا عاهل آلام العالمين،
جززتَ الفوارق، وصنعت بذلك فرقاً لا يزول؛ قربك الأشد، لن يبلوغه في أنفسهم ولن
يستطيعوا.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...