الراحلون لا يغادرون في قاطرةِ كورونا.



    انتهيتُ لتويَّ من تناولِ القهوة المُثلجة، منخرطًا في زحامٍ شديد قُبيل أن تخلد الرياضُ للنومِ عند الساعة الثامنة مساءً. وبدى ليّ وجودي في هذا الحيز الضيق أنه الشيءُ التواصلي الوحيد الذي اقترفتهُ منذُ حلّ الحظر في أيامنا، وأخذ يُعلمني في كل يومٍ أن أزيد في تعلم الاسترخاءِ؛ أن أخرجَ مِنْ مطحنةِ الزمنِ التي لم تعد للدوران، مُذ قررت كل المفاهيم الوقتية أن تخرم حقائبها وتخرج من هذا العالم لتجدّ لها وظيفةً أخرى في مجرةٍ أخرى تشتاقُ للشيخوخة. 

هذا الزِحامُ لا يريد أن ينفض، وأخي يواصلُ الاتصال عليّ مرةً تلوى الأخرى، أجبتُ أخيرًا: عليكَ العودة، لا يمكنك أن تتنزه الآن وقد قربت المدينة من غفوتها اليومية، أتراكَ تطيلُ النظرَ كثيرًا فيما أنتَ فيه مرّة أخرى أيها الرومنسي...استيقظ ثم عد. 

يعتقدُ أخي، أن عليّ أن أحمل هذه " المعايير" ذاتها التي يحمل لمجردِ أن سمةً عملية تتوشحُ سحنته وهو في هذا السن الصغير، بالطفولةِ المقعرة حِدب الذاكرة. عليّ أن استمتع قليلاً، أن أصافحَ الطريق، وأحكي له حكايةَ الاختبار... تعلو أصواتَ الكلماتِ في قلبي، تريدُ أن تتساقط ثِمرًا لتسقي الطريقَ، لقد نضجت بما يكفي لتسقي أرضًا أخرى ثمرَ ذاكرتي، امتداديّ السُلالي الذي يلتحمُ بالتربةِ ليمسَ الشوقَ فيهِ، ويلقى كل الراحلين. 

مُذ أتى كورونا لمسَ في حياتنا عبقَ الآلاتِ التي تعاود الكرّة كل يومٍ، وجعلنا نتلمسُ قلوبنا أكثر، الشعور اللطيف الذي يسري في المكانِ ليملئه بالسكينةِ والهدوء. وأخذ يُرتب شكل وجودنا في الحياة، يعيدُ صياغتنا، ثم يلفظنا كجملةٍ جديدة. 

رحلت جدتي، قبل أن يُشدد الحظر، وكنا على طريقِ السفرِ عائدونَ إلى الرياضِ لم نستطع أنْ نصل في الوقتِ المناسبِ، لكننا شاركنا في العزاءِ الذي لم يكن كأي عزاءٍ حضرناهُ في ظلِ الاحتراز، وبدت ليّ جدتي التي لا يخلو منزلها من كثرة من الناسِ، قررت أخيرًا أن تنسحبَ بهدوء، وتتركَ في قلوبنا أثرًا نيرًا نحملهُ معنا أينما كنا، لقد أصبحنا قادرين الآن على تحسسِ طينةِ قلوبنا، امتدادنا بالأرضِ التي حملت طهر جدتي لتغيثَ في قلوبنا الرأفة، وتمسح علينا بمدادٍ الامتداد الذي يجعلنا متصلين بكل شيءٍ جميل، وعلى هدى كلماتها الحكيمة، والوجود العامر الذي ينيرُ بمشكاتهِ الحكمةَ والصفاء ذاك المكنونُ الذي يجعلنا نصلُ بالبصيرةِ ما لا يرامُ بالمشاهدة.  

لم يمرّ الوقتُ أبدًا، لأن كل الأيامِ تجعلنا في حسٍ عميق بالهدوء الذي نصلُ به إلى مكنونا، حتى جاء رمضان وأعملَ نورهُ في أفئدتنا، فأعاد بالتراويحِ قلوبنا أنقى، وجعلنا بقراءةِ القرآنِ متدبرين في صنعِ الله، في المعنى الزاخرِ، وفي الفيوضِ التي تتفجرُ من نفوسنا باتصالنا بالقراءةِ، لم يمرّ اليومُ الأول بعد حتى حلت العشر الأواخرُ، بالأبهةِ المقدسة، وبالرياض المعطرة، تهادي بأرواحنا وأجسادنا في مكنونِ نفوسنا، متحرين ليلة خير من ألفِ شهرٍ، حتى حلَ علينا خبرُ وفاة خالي الجليل، فقضَ مضجعنا المُصاب، وقمنا لصلاةِ الغائبِ، يأمنا أبي، ويتلو من الدعواتِ الصادقاتِ على روح خالي الطاهرة، لقد كان الرحيلُ الثاني الذي لمسنا فيهِ مزيد اتصالٍ مع الغائبين، وأن الوجودَ وجودُ الذاكرةِ الممتنة التي تلهجُ بالذكرِ الطيب عن الراحل الطيب. 

كان خالي، ذا قدرٍ كبير، لطالما علمنيّ، وزادني بوجودهِ فقهًا في المُجرياتِ، لكنه وبعد صلاةِ الفجر، وعلى سجادة الصلاة، رحل بهدوء، بعد تلاوةِ ذِكر الصلاة، وبهدوءٍ وصل الخُبر إلينا، وبهدوءٍ قمنا للصلاةِ عليه، وفينا عبقٍ من نفسهِ الزكية، وطيّبٌ من شذارهِ الوفية، وصورةٌ جميلة عند كل مُنحى حسن، تذكرُ وتتركُ في النفوسِ بِذارًا كثيرة لخيرهِ الوفير. 

لقد علمتُ أنّي الآن أكثرُ اتصالاً بالمكنوتاتِ، أَمسُ بيدي الوثائقَ القديمة للسلالةِ، وأتحسسُ بأناملي وجوهَ الأجدادِ، الطينةُ القمحية المُنبثة في دواخلي، وأتحسسُ في كل تنفسٍ اتصالاً عميمًا بالعالمِ، فإنّي جزءُ من الأشياءِ التي هي جزءٌ من جسدِ قلبي العميم، إنه الصقلُ الذي يحملني إلى شكلٍ فني آخر أكثر عذوبة للوصلِ البرّاق، أَمسُ اسمي فتتفجرُ مِنه ملايين الأنهار التي تُقل الربيع بين جوانبها، حاملاً معي الحُبّ التاريخ الوحيد الذي حُقَ بي، وأنا أحقُ بهِ عاشقًا ومتيما.  

لم أعلم أن لحظةَ كتابتي الأولى تتوسع لهذا الحدّ حتى خضتُ الاختبار الأخير، فبدا ليّ قولي الأول: أن لحظتي الأولى في الكتابةِ هي لحظتي الأخيرة، وهي المدُ الذي حمل جسدي انتشارهُ بالوجودِ، لقد أصبحتُ بالصمتِ مدادًا للكلامِ الذي يُزاخر الوجودَ في قلبي، ثمّ يمتدُ هاطلاً من الأراضي التي يعبرها للسمواتِ التي تقلهُ للعلو أكثر، أن يرى بقلبهِ كل قلبٍ، ويجسَ بهِ كل حُبّ. 

أصبحَ وجودنا الالكتروني، يشيرُ إلينا مِرارًا، يجعلنا نقف أمام المرآة لنتلمسَ وجوهًا جديدة، وأعضاءً آخرى غير التي نعرفُ بها، وهو ما مسح بكثيرِ معاييرٍ، وأبدلها غيرها، وأصبحَ العالمُ الذي نعدهُ قريةً صغيرةً بيتًا واحدًا مختصرًا تعيشُ فيهِ ملايين الكائناتِ وتتلمسُ في وجودها كل وجودٍ آخر، عودةً للبذرةِ التي نمو منها، اتصالاً بالحلقةِ الأولى، حيثُ أدم -عليه السلام-  لقد مرّ الاختبارُ سريعًا، مع القهوةِ، مع المثلجاتِ الطيبة، وحُملت ذاكرتيّ زاخرًا من الأقوالِ والأفعالِ التي اختطت بيراعِ جدتي وخالي، ثمّ خططتُ بيراعي اجابة الاختبار الأخير بلا مِداد، ولكن بالحُبّ الذي تشكل ليصافح الوجود بعبقٍ لطيف من الذاكرةِ الحلوة، وألمسُ التحايا في وجوهِ الصحابِ، أن حيّ على الفلاحِ ...للجدِ نصنعُ المسيرة، ونتصل متجاوزين كل حدٍ إلى الكمالِ وإلى الجمالِ؛ أن نستمرَ في التحولِ، وأن نسعى في الذواكرِ أمثلةَ عطاءٍ واجتهاد، ووصولٍ وامتداد . 


                                



تعليقات