الصمت
هو اللغة الأولى التي نَمَّت في صدريّ الكلام المُوجع!
هيثم بن محمد البرغش
لم أستمع إلى وصفٍ أكثر مِنْ كوني صامتًا وهادئًا! . كانت الوجوه التي تبتسم لأبي لتبدي عن هدوئي وصمتي الاستغراب والكلام العذب كثيرة، لكنني لا أتذكرُ شيئًا مِنها إلا أنها أفواه لم تستطع قط أن تستمع للكلامِ فضلاً عن الصمت التي يُعمر في صدريّ الجِنان والبنيان، متسائلاً: كيفَ تصيرُ الأجساد برمتها مطحنًا للكلامِ ذي الجعجعة.
لم أعلم كم مرّ بي الزمانُ، فالصمت الذي يضخم لغته في صدري يخوضُ سجالاً طويلاً مع الوقتِ الذي لا يمضي، الوقت الذي يضبط ساعته على اللحظة المواتية ليكررها…فأسمعُ دبيبَ صوتي باللحاض الغافية.
أسعى في كل حديثٍ، وأنتشلُ وجهَ الصمتِ من لغتي، مختزلاً الأماكن بدمي ذي الشدو ولا أعيدُ الذاكرة، لكنها تأتي بفستانٍ جديد وبوجهٍ يقطرُ بالعذوبةِ ليمسَ في التفاصيلِ التوقَ والحُبّ.
أمشي بسكينة، حاملاً جسدي الذي يخطو كغيمةٍ تتقافز على الأرض ساعيًا إلى جدي الذي لم يفتأ عن القراءة مُنذ خمس وسبعينَ عامًا لحظةً؛ فالوجودُ برمتهِ محضُ لغةٍ تفسر عن الحياة وعن الموت الذي يسعى بيننا ببساطة ولطف خارجَ كل معيار.
وأسأله عن النخيل الباسقات في بيتهِ الصغير، عن الوجودِ الذي يسعى بالوجود وينبتُ فيّ الكلام شيئًا فشيئًا.
كنا نتجمعُ عند مائدةِ الطعام، فإذا انتهينا وفضننا استدارتنا رحنا نسابقُ النجوم في رحلةٍ مسائية ننتبع فيها التحولاتَ التي طرأت على العالمِ مُذ كنا إليه ساعين. نتفقد الديارَ الصغيرة، والكلأ الذي يعطرُ الوديانَ بالخضرةِ التي تعاقرُ الماءْ .
وكثيرًا عندما نعود وأمدُ ببصريّ نحو السماءِ التي تتخذُ الشفقَ الأحمر لتطربَ قلبي، وتهزُ فيهِ أغصانَ الشِعرَ، وأتشنفُ النسيمَ المعطاء، متصاهرًا مع الأشجار التي تنادي قلبي لأعي اتصالاتي بالمكنوناتِ، وأتذوقُ الثِمارَ التي أعطت فيّ الأرضُ بسطةً ثريَّة ومهرة من الفضاءِ زكية؛ لتتلألأ في عينيّ كواكبُ درية، ومن دمي الكلمات التي نبتت من شجرةِ الصمت الطويل الذي زرع فسيلته الأولى جدي بحكمتهِ ذات الباع الطويل. أذهبُ إليه، ألقي عليهِ التحية، فينثرُ عليّ السلام والجمال، لأرى الدررَ المبثوثة في مداهُ لا تنقضي، وعندما أبحر للوصول… أرى امتداد شجرة العائلة المُعلقة على الحائط، الامتداد الذي يجعلني أشمُ رائحة النخيلِ الممهورة بالطين، والماء العزيز في سدير، وأذوق التمر الذي لا يَسدُ رمقَ يوم، وألمس بيدي البيوت الصغيرة جِدًا والمُترامية لتقلني فُلكًا إلى سُحنة جدي البهية. لقد قرأتُ في وجهِ جدي مُذ مسسته يديَّ طِفلاً، حتى نمّى في صدريّ شامخًا تاريخًا ممدودًا على رقعة الذَاكرة التي لم تفتأ عن الكتابةِ مُذ وعيتها، ولم تتوقف عن الحُبّ مُذ خَطت أديمها عِنانًا للتعشقِ والتلهف.
والآن أطيل النظر في الأوراق التي تبثُ عبقًا من الماضي في طوياتها، وفي غرفةِ جدي الذي ازداد بقاءً بإلتحامه بتربتهِ في سدير، وأنا أكتبُ للصمتِ مضجعًا على الأريكةِ، أذوقُ بدمي النجوم الهاطلاتِ رنيمًا، وأتلامس الكلمات الحُبلى بديمِ المعنى اللطيف، فتنتشرُ التفاصيل الدقيقة بيّ لتغمرَ نفسي المصقولة، فتترك عليها مسحةً من مطرٍ لغوي ينشرني على الصباخِ التي تحوّل ربيعًا مقيمًا، وأثرًا بالوجودِ عميمًا.
أقرأ الأوراق العتيقة، وتتغلغلُ أصابعي فيها، لتحسَ بكل الأيدي التي حملتها…وكل الأفواه التي قرأتها، وكل البشر الذين مرو بالاندماج بمكونات الأرض التي لن تنسى أبدًا، الأرض التي تحضن القارين في أحشائها لتعمرَ بالسكينة بيوتًا من نور في الصدور.
أنهضُ من محلي للقراءةِ، وجوهًا ترمقني في كوب القهوة، وكلماتٌ تريد أن تنمو، وتحطم الطوق إذ تتقافز من على سورِ الكوب قائلةً: كم من سور يعتريك حين تستمع، وكم من سور يحتويك حين تنطق؛ إنك أسيرٌ في الكلام كما أنت في الصمت.
أعادت ذاكرتي هيكلة جسدها، أصبحتُ أرى أحداثًا أخرى، وأسمعُ أصواتًا جديدة. إن البيتَ الذي جمعنا أخذ معولاً ليحطم بسطتهُ بيدي قارئٍ جديد يريدُ أن ينبتَ من دمهِ؛ أن يبدلهُ بالمثلجات، ويتخذ شكلاً جديدًا من رمادِ التجاعيد، أن يختلقَ بيت عنكبوتٍ، حكايةً يلفظها لتنقضَ سريعًا.
أنادي الوثائق، وألحظ فيها الطفولة، كيف تنادي النهر العميق في قلبي ليقلها إلى النعيم، أن تهجرَ اليدَ التي تحطمها بالفؤوس لتعيشَ في القلبِ الذي يعمرها بالوصلِ العطاء.
لقد نهض صوتي من مكمنهِ، وأتخذَ من انهمارهِ جوالاً في البرايا دليلاً على الحياة التي تحسنُ الدورانَ مع كل سبيلٍ اختط مِن راحات السلالةِ، تزرعُ وتحصد لتأكل ومن ثمّ تعيش في دواخلنا جسدًا ومعنى، تتصل بالأشياء لتعبر من خلالها ولتكمن فيها بعد ذلك .
لقد نمّى صوتي مع الشجرة التي طالتْ كثيرًا في بيت جدي، ملتحمًا بقعرِ الأصوات التي خرج مِنها ليعود مرّة أخرى. إنّي صوتٌ قديم، يُنع من الثمارِ اللذيذ والمفيد، وفيهِ من الومضاتِ نورٌ بهي، ومن السعي عطرٌ سَعِي، يحلقُ بي مُعبرًا لأرى ببصيرتي مكاني بالمحلاتِ التي تسعى إلي لتلقي التحية ممهورةً بالحُبّ. يتمشى صوتي بين الحقولِ وبين العقولِ، عند الثمارِ التي همرتها اللغةُ في أماكن أثيرة.
لكل شيءٍ سبيل لشيء، تتصل ببعضها لتكون سُبلاً يسعى بها الكائنات، لذلك حتى إن توقفت فإن الأشياء لابدّ وأن تسعى إلي! هل هو قدري أن أسمع باللغةِ مالم يسمعه غيري، وأن أقرأ في اللغةِ مالا يعيهِ سواي؟
تناديني الأراضي، وتلهجُ بندائي الأسبال… البيوت الممدودة على مد بصيرتي، والطين الذي يستطيب مروري لا يتركُ علي أثاره، لأنّا من أصلٍ متحد؛ إنْ تحيتي للعبور تتصاهر، لتقطفَ أسمائي في كل شجرةٍ، ولتكتبَ بمداي بكل لغةٍ تحكي بصوتِ الحُبّ الممدود بيني والوجود ومن ثمّ تذوقُ جسدي. أتناولُ هذه التفاصيل لتتخذ مِنيّ وطنًا ومسكنًا لا يغيبُ عنه النور، مِداداهُ الولادات التي كتبت للوجود شكله الخصيص مصقولاً إلى تمشيه بين الألبابِ بالمعنى، وكم هو مغرقٌ أنْ تحسَ بالطفولةِ تنحى بكَ جرحًا لتعلمَ، وتتخذُ من اللغةِ مِطرقًا يحدّ بميلك عن ميله للجادة. إن الصمت هو اللغة الأولى التي نمّت في صدري الكلام الموجع الذي لم يوجعني قط، ولكنه صار معولاً يعيد للبنان شموخها بعد قضها عن بكرةِ الوهم إلى بكرة الأرض الحنيّنة.
يا عاهل آلام العالمين، يا صوتَ الحنين غِمارًا للوطنِ الجميل.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...