٢،
يا عاهل الآلام...
توسع النداء، عبر حدود الأشياء، ثمّ استقر في قلبي؛ المكانُ الذي أزهرَ بالكلمات…أصحو على حضور غسقٍ مسائيّ يتغلغلُ في كوبِ الكراويا التي وضعت على الطاولةِ السوداء المحمصة بذكرياتٍ تريدُ أن تنقضَ لكن النسيانْ يأبى، لا يكاد الوقت بالابتداء حتى يعود بوجهٍ جديد يطرز الجُمل التي أحيك، والجمل التي ترضى أن تفقد كينونتها لتكون عقد فسيفساءٍ في نصٍ ما.
تقول لي أمي عليّ أن أشرب شاي الرمان الذي يشعُ بريقهُ من الكأس و يلتحمُ بالضوءِ الخافت المتسلل من فتحتِ الباب الحديدي السُفلية التي تريد أن تقول: هناك سُبل كثيرة، يمكنك أن تعبر مِنها.
أتكئ تاركًا ثُقلي على المركى؛ مئةٌ ونيَّف من الكيلو غرامات تترك شيئًا من ذاكرتها سائحًا على الأثاث الذي يتشكل من طولِ مقامنا عليه. إن الشاي جِدُ لذيذٌ يا أمي، رائحةٌ عطرية باذخة، ومذاقٌ يتغلل في تكويني إلى ما بعد النخاع.
أوه إنها الساعة الخامسة والسبعون ، هذه اللحظةُ التي يتوجب عليّ فيها النهوض ثم مقارعة الطرق الملتوية للوصولِ إلى صناعية السيارات، أو المشفى الصِناعي كما يُحب أن يسميها خالي المتحذلق اللغوي.
لا أعرف كيف يمكن للإنسان أن يبتاع صمتًا في هذه الأثناء إذ تبلغ درجة الحرارة الثامنة والثلاثون ولمّا يأتي برحالهِ أغسطس بعد!؛ هل مُنع من الوصولِ في فترة الحجر التي فرضها كُورونا على العالم؟
أشك كثيرًا ولا أصدق حسّاب الحرارة في سيارتي فربما يريد هو الآخر أن يلقي علي نكتةً تخفف عنّي ولعلهُ هو الآخر أصيب بصفعةِ شمسٍ فظلّ الوِجهة، وما يزيدُ الوضعَ بِلةً أن التكييف لا يَعمل، فهو يقوم بإعادة بث السموم التي ينتجها الازفلت المسكين المُعبئ بنزقِ العابرين.
لقد تهتُ بعد ما تجاذبتني الأفكار إلى نواحٍ عديدة حدّ أن حسبتُ أنّي جهة ما، هذا طبيعي، فالقوقل ماب يصرُ على توجيهيّ لثلاثمئةِ كيلو مترٍ جهة الشرق إلى الأحساء تحديدًا، ولمّا أبارح مضجعي في الطريق بعد، فمرّة تلو المرّة أعود للمكان، وكأنّي عاشقٌ يبكي على أطلال الذكريات!
وبعد أن استنفذتُ جهدي، وقررتُ أن أعود عبرَ طريقِ خديجة بنت خويلد كما تهمسُ في أذني اللافتة، وصلتُ للورشة التي أبغي دون أن استمع إلى اقتراحاتِ العم قوقل، والذي وليكفرَ عن الخطأ أشار لي أخيرًا أنّي في المكان الصحيح.
هذا هو المحل الذي لا أعرفُ وجهي بهِ، فلستُ بهذه الهياكلِ المرمية خبيرًا حيثُ تلتهمها الشمسُ وتقضي مِنها البُغى. أين محال التبريد؟ سألتُ عامِلاً يرتدي كمامًا ينتظرُ أن يحمل إلى مثواهِ الأخير إذ تبدو عليه مظاهر الاستخدام لوقتٍ طويل وبينما كنتُ أنوي الإشارة عليه بتغيير القناع الذي يرتدي قال لي : اذهب إلى الجهةِ المقابلة ستجد بغيتك، شكرته ثم مضيتُ إلى حيث يذهب بي توقي إلى التكييف.
وصلتُ للمحلِ أخيرًا، حيثُ عبئت الفريون قبل شهرين بمعيةِ أخي، وبعد المشقةِ الطويلة قال لي المُبرد، عليك بالفحصِ الليزري، فما الذي يدريك لعلَ في الأمرِ ما لا نعرفهُ، فيبدو ليّ أن هناك تسربٌ جهةَ الثلاجة... استغربتُ الأمر، فقلت: هل لزامًا عليّ هذا الفحص؟ فزاد قائلاً: إنك بعد تعبأة الفريون قد تعود مرة أخرى لتفعل مجددًا بعد شهرٍ أو شهرين!
لم يعد يسعفني الوقت لانتقل إلى ورشةٍ أخرى، خصوصًا أن العامل حدد مكانًا شرقَ المدينة، يبعد عن هنا قرابة الثلاثين كيلو مترًا التي ستزداد كثيرًا في قيضِ الصيف وبلا تكييف، مع ارتباطي بمشاغلَ أخرى قررتُ إجلاء الأمر فيما بعد فكل الساعات تشير إلى الخامسةِ والسبعين!
يراسلني ابن عمٍ قائلاً: حذارِ أن تفحص بالليزر، فإنّي ومع طول مكثي بالصناعية لم أسمع به، يبدو خدعةً، إنهم يتلاعبون بك! ، وصلتُ عُرى اليقين، إنه لولا جهلنا بالأشياء ما أمكن هذا الخليط المتجانس والمختلف من التجمع في بقعٍ نثيرة من العالم، فلكل كائنٍ وإنسان دوره وما يحسن، وبالتأكيد لا يتوجب عليه أن يفهم في كل شيءٍ فوق القدر الذي يستزيد بهِ في مسايرة سعيه نحو ما يرنو.
عدتُ إلى المنزلِ، جمعتُ نفسي وأعدتُ صياغتها مِن جديد تحت الدش البارد فالشتات الذي وزعني بين ردهِ الطرق ولوحاتِ الوِرش والوجوه التي صبغتها الآلة بتجاعيد عجيبة كأنما هي الروبتات.
يبدو أننا تحولنا بشكلٍ ما إلى كائناتٍ جليدية تعشقُ البرد، بينما طينتنا عُجنت في الصحاري المُقفرة شديدةَ الحرارة، تمازجنا حتى أصبحنا كائناتٍ أخرى تتصاهرُ معنا البيوت المسلحة وتضع على تصرفاتنا رونقها، إننا شكلٌ فني عجيب للتحوّل ...
أنهيت العمل الأهم هذا اليوم، أن أرمي بوعثاء الطرقِ في سلة المحذوفات، وأبدأ بممارسةِ الحياة كما يتوجب على من هم مِثلي كاتبًا وقارئً.
إن الكتابة تشكلٌ آخر للصمت، والمكتبات التي تحوي الآلاف من الكتب هي عامرة بالصمتِ الذيذ، الصمت الذي يتسرب مع الهواء ليسكنَ أبعد نقطةٍ في جسدي ليكتبها. و بدأتُ أؤمن أن أكثر الكائنات ثرثرةً هي الأقلُ قراءةً، فهي لا تستطيع أن تعبر وحشتها بغيرِ الهراء الطويل الذي لا ينتهي، إن الهراء سبيل جميل أيضًا.
أمسكُ بالقلمِ الأخضر، تحت مكيفِ غرفة النوم هذه المرّة، وقد تجمدت أطرافي تقريبًا ومع هذا ما زلتُ باقيًا بالملابسِ الخفيفة أداعب الأوراق الجميلة بالكلماتِ التي تتزيا بها، وبالمعاني التي تعطرها، و بشذرٍ من التفاصيل اليومية شيءٍ من كل شيءٍ علقَ بي هذه الأثناء لِيكتب، ليمارسَ الرحيل بالبقاء مكتوبا.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...