أنفثُ عبقي بالأرجاء!



أنفثُ عبقي بالأرجاء!





٣، 

أنفثُ العبق المتغلغل في رئتي حدّ  أعمق حويصلة هوائية في جسدي، دون أن أتعاطى النيكوتين، فلكلٌ مِنا  طريقة يشاركُ مع العالم أشياءً بداخله عن طريقِ تنفسها، لقد تنفستُ الحُبّ بعمقٍ إذ رأيته يتغلغل في الهواء ليبلغ مستقرًا فيّ، ويسافرُ بين أحاديثِ الناس العابرة متغلغلاً بين الفواصلِ والجُمل، وفي الكتبِ وفي يدي مُعدي القهوة والشاي بالمطاعم ويحطم الحدود بين المتكونات ليجعلها على صعيدٍ واحد، لكل شيء باختصار... ما أجمل أن تصل ببعضٍ مِنك تركته يواصل مداولة المصير بين كائناتٍ وأشياءٍ كثيرة حتى يبلغك وقد تحوّل بعمقٍ بحوزه الجمال من النواحي والآماد.

يبدو المقهى مأهولاً بالصمت، بالشحوبِ الذي يترك أثارهُ الغامقة على المكان خلفَ قِناع العتمة والضوء الخافت جِدًا، يشعل الضوء قليلاً ليلفت الحضور إليه ثمّ يوصد من جديد هل آن أوان جديد يا ترى؟ .

أشربُ الشاي المُغمق على مضض وأحاول أن ابتلع هذه المرارة المُغلفة بالكرتون المُصبغ بالكلمات التي تحض على التمسك بالحياة القصيرة، وقد طفقتُ أجمع هنيهاتٍ من فكري قائلاً : لماذا إذًا لا تمر هذه اللحظة؟
و يتوجه ناظري إلى هاتفي المحمول كما تفعل الكائناتُ الحية التي تملء الأماكن لتثبت أنها خارجها! .

يبدو أن الوجبة اللحمية الكبيرة قد آن لها أن تتوزع، وتصيبَ خلاياي بالتخمةِ الحميدة، أن تعطي وجهي رونقًا بديعًا حين يبتسم فلا بدّ وأن تكون سِمةُ الحياةِ ظاهرةً عليه وليسَ ذلك بالاختفاء، عليّ إذًا أن أرفض النِظام الغذائي الصارم الذي يحدثني حوله كل أحدٍ وكأن جسدي مشكلة كونية لهذا الوجود، سأعتبر نفسي بالونًا متنزهًا بالحقولِ الخضراء، منبثًا مع العطرِ الفواح، متسمًا بالهدوءِ كالنسيم.

عليك أن تغادر الأشياء برفقٍ تاركًا بعض العبقِ الذي يقتاتُ عليه الحضور، فانصرافنا يمعن في جعلنا بقاءً متصلاً بالأماكنِ و بالذواكرِ؛ بالأجسادِ التي تحنُ إلينا حنينها إلى فهمِ طينتها هذا الوجود الروحي الذي يترك بصمته النيّرة على الأشياء، ويجعلنا أعمقُ تواصلاً في وحدويتنا. 

حان الخروج إذًا، يلمُ البائع اشعاث الأشياء الملقاة على الطاولات، ويمسحها بالمطهرات، وكأنّه يقول حان وقت الانصراف، أحمل نفسي بريهةً تقلني مشاعري اللطيفة إلى البيت دون أن يكون للوقتِ يدٌ طولى في الوصول، أحملُ العبور بيدي التي تتوّق إلى أن أهمرها بكتابةٍ أخرى.

لقد أصبحنا نخرج بطرقٍ جديدة، منتعلين كثيرًا من الأشياء التي لا تنتعلُ عادةً، مرتدين الأقنعة، وعلينا من ريحِ المعقماتِ أثرٌ لا يزول، ومع ذاك ما زال الحنين يجدّ له في نفوسنا مستقر، وما زالت السيارات تستطيع أن تقلنا مجتمعين كما نفعل الآن ونحن نتبادل الضحكات بعمقٍ... 

أترنحُ مازحًا جهةَ اليمين والشمال لأحكي عن سكرةِ الحُبّ التي يغرقُ بها المتصوفون، غير أنّي لا أهوى الصوفَ في هذا الحرِ المقذع. 

إنها وِلادة تتأتى بالمِرار، هذا المخاض الجميل إلى الكتابة. ابتعتُ آلةً كاتبة بعد إذ لم يعد لعيني أن تكون متاحةً طيلة الوقت لتنظر إلى الشاشة التي أشتاق بين الفينات للاتصال بها لالقاء التحية بجملة أو قراءةِ كتاب.

أكتبُ لاحظًا تبدلي الآني، تحول ذكرياتي وتلونها بأشكالِ الربيع المختلفة بالعالم فمن اللغة يكون الابتداء، أنظرُ لهاتفي مرّة أخرى لأعي الرسالة الجديدة التي تكتبُ صيرورةً مستجدة لمعنىً جديد يريدُ المثول مكتوبًا ليصل. 

أقرأ فِنجان الوقتِ، قد حان المثول عند الضيعة المُزهرة، امسح جملتك الأخيرة واجعلها للحبّ فلا شيءِ أحلى من الحُبّ يا عاهل آلام العالمين.

تعليقات