العودة من القرية للقلب!






٥، 


عدتُ إلى بيتنا من القريةِ بعد هنيهة درتُ بها على مداراتِ كواكبها ووعيتُ في قلبي وجوهَ وجوهها،  وراحت في دروبها المحشودة بالتواريخ تتكشف ليّ البلد الصغيرة كرمانةٍ محشوة لذيذٌ ما تحويه وجميل الطلّة واللون إذ قادني الحنين لأضم كل بيتٍ، وأسلم على كل دار، وأفتشُ في كل صوتٍ نخلته التي نمّى مِنها والتمر الذي نبت من البسوق إلى السماء يفيض بالرياض حسنًا معبقرا.


عدتُ لأرى الغبار وقد أتم غزوته بنجاحٍ كبير اكتسح فيهِ الغرف، وترك أثارهُ على الأثاثِ، وعلى الشرفِ والنوافذ غير أنّي لم أعبأ لذلك، فحتى هذا الغبار مملوء بالحنينِ ألينا، إلى أجسادنا الترابية التي باتت قادرة على الروّاح والتنفس ثمّ بدت تتملصُ من أصلها، إننا نعود في جذورنا بعمقٍ إلى ذراتهِ وأجزائه إلى الطين المبلل بالقرّب الشديد من تفاصيلهِ الدقيقة وكما تفعلُ القهوة الباردة بيدي إذ تجعلني مسيسًا أكثر بطينتي الأولى ذات الهدوء.


بتُ في تساؤلٍ ضاحكٍ هل عليّ فِعلاً أن أطردَ الغبار الذي نمونا من أصلهِ؟ يبدو أن تقاعسي قد زاد عن الحدّ المطلوب لأفسرَ الأشياء بهذا المنظور كما يقول أخي الذي يرمقني بنظرتهِ العجيبة بينما يعتمر في يديهِ لعبةَ اليويو، هذه الرياضة المهددة بالانقراض لكنها تجدّ لها وفيًا مِن قعرِ الصحراء وفي وطنِ الأتربة والغبار... لماذا إذًا لا تقومُ بدورٍ حيوي اليوم، وتأخذ على كاهلك شيئًا من أعمالِ المنزل الذي يتوق لراحتيك الدبقتين فربما تجد في ذلك تكتيكًا آخر تبهر بهِ العالم أيها البطل الدولي؟ أتظن مِن برجك العاجي ستمتلك زِمام الأمور يا أخي، كُفَ عن إعطائي الأوامر بتغليفك إياه بما أهوى أنظر إليه ثمّ أخذ بصري إلى شاشةِ التلفاز منتظرًا بداية اللعبةِ الفديوية ثمّ أبدأ في وضع استراتجيةٍ تكسبني المَعركة وحيثُ أخذّ برجلي و جنودي للفوز برفقِ الغُبارِ الممهور بالدماء. 


بدأتُ أرى يدي وقد عبئت من الوثائقِ المكتوبة مِرارًا خشيةَ التلفِ، وكأنما صِرتُ صحيفةً ممدودة من السماء للأرض لتحفظ الكتابةَ عن التلف، هل يا ترى ستتلفُ رسائل الحب التي لم أكتبها لأحدٍ غيري، ثم ينقلها كاتبٌ آخر خشيةَ التلفِ لتصل القلوب التي أرنو؟ عجيب أن ترى وجودك قد قُيض له من الحبِ قارئ بعيد يعيد وصلك بما ترومُ بعد الرحيل.


هكذا ملئت بالقريةِ حدّ الامتلاء، فكأنما هي مزروعةٌ في النواحي التي أسعى وتلك التي أحوي، فقد بتُ أرى المدينة الجميلة ذات البروج المديدة والطرق الطويلة والمليئةِ بصور الحياة و البهجة بيعني القريةِ اللطيفة ذات المدّ الطويل والجذر البعيد إلى قعرِ الصبابةِ للرياض، كما رحل جدايّ إليها حافين بلا شيءٍ سوى التوقِ إلى العلم، ثمّ نمت شجرتهم في الرياض التي أحبو والتي عاشوا . 


الآن انتهت معركتي الاستراتجية بنصرٍ كبير، غير أنّي لا أزلُ محملاً بهذا الارث، هذه الشجرة الممدودة في الطريقِ للرياض ذات الثمارِ الحلوة والذكرياتِ الجلوة وقد رحل الغبار برقصه مع الريح ليبلغَ الطين الذي أحب في القرية الصغيرة.






تعليقات