٦،
بينما كنتُ جالسًا أطالع أحدَ الكتبِ التي ألفتها بعيني المُستعجب وكأنّي مقطوع الصلة بما أنسج وصلتني رِسالةٌ من صديقتي شجرةُ الصبار رسالةٌ مغمورة بشوقٍ يطرقُ قلبي برائحتهِ العبقة الفريدة وبمعانيهِ الحلوة الصقيلة فخلتني أمامَ عملٍ فني بديع قد امتدت إليه يدُ الحُبّ لتعطيهِ مِن الجمالِ أبلغَ ما تفصح عنه الجُمل والكلمات.
تسعى الأحداث التي نمر بها على وجهِ البسيطة لتقارع ملايين المناخات، وتتذوق اللغات التي يتفوه بها الناس، وتغذى على نكهاتٍ لا تحصى، ثمّ تصل وقد صارت شيئًا آخر مستعذبًا فبذلك نمسُ في ذكرياتنا مالا نعرفهُ بشعورٍ آخر جديد، يعيد تكويننا فلا نعود ما كناه إلا من شذرٍ يسير يدلُ الكائناتِ إلينا.
ولجتُ إلى الرِسالة من جهازي الجوال، وبتُ استعذبُ الكلمات التي نمت في قلبِ الشوك كيف لشلال الصبابةِ أن ينهمر فيها ويعمرها بالذكريات المطرزة باللطف تقول شجرة الصبار: أنها مشتاقةٌ للقاءِ وأنها لم تعهد فقدًا يتوسع فيها فقد جعلها البعاد ترضى وتهنى، وصارت بعد التفكر إلى الأذية لا تروم وصولاً، وإنها بعد إذ بعدت عن خمر الحُبّ عادت إليه أكثر رغبةً وأمد وصلا.
هممتُ بالرّد فإذا برضيعِ خالتي يداهم الغرفة مترنحًا ودافعًا الباب الموارب للصالةِ التي تعلو فيها أصوات الأحاديث المختلطة بأصواتِ تهشيم المُكسرات.
نهضتُ مسرعًا وحملت الرضيع بيدي قائلاً : أوبا ليضحك وتبين غمازاتهُ اللطيفة التي ورثها عن هذه العائلة متأكدٌ أن غمازتي قد ظهرت أيضًا في هذه الأثناء يمكنني أن أراها في قلبي بعمق، قلبي الذي تعيش فيه شجرة الصبار!
أذهب للصالةِ قائلاً :لا بدّ وأن أهمر الشاي إلى قعرِ خلاياي لألون دمي بالاحمرارِ فوق الاحمرار، و أمازج جلوسي الصيفي لتناولِ الاحاديث التي لا غايةَ لها، وإلقاء النكت التي تجعل هذا الصيف محمولاً على النسيمِ الذي نتفوه به لنلطف الأجواء، ولأمسَ كل شجرةٍ في الفؤادِ ترتشفُ من بلِ الكلامِ معنى.
تمر الأوقات لتقول للحاضرين إنها لا تمرُ أبدًا، فالوهمُ هو الذي يجعلهم يأتون ثم ينصرفون، إن البقاء والرحيل واللقاء والوداع إنما يقع في القلب مع إيماني بذاك لم أستطع أبدًا أن أكتب لشجرةِ الصبار أننا في لقاءٍ دائم، لقد تذكرتُ أنّي لم أحادث شجرة الصبار عما ينيفُ عن الثلاثمئة وخمس وستين يومًا كما تعد الكائنات الحية لتقول مرّ عام بينما لا يمرُ شيء سوى الشغف الذي يجوب الكونَ ليستمر جميلاً وشابًا.
ذهبت إلى الغرفةِ لأضجع على الأريكة ذات الامتداد الذي يأخذ مساحةً لا تخفى على الناظر، وأمام الطاولةِ السوداء لعلي أن أحظى بفيلمٍ وثائقي عن الصبار… إنّي شغوفٌ بحبٍ إلى الطريقة التي يتخذها الصبارُ للعِناق، ثم رنت في خاطري فِكرة لربما كانت الأريكةُ مستخرجةً من الصبار، يمكننا أن نجعل كل شيءٍ أمن وجميل عندما نستعذبه.
فوق ذلك أتذكر شجرة الصبار، كيف هُمت بها، لكني كلما ضممتها إليّ طالني من شوكها ما يضير، ثمّ صارت هي إلى الانتفاضِ فسقتني بتمنعها فوق الشوكِ زيادةً في التحرّق على لغواء الفراق الذي يحيك كل لقاءٍ مشموم بالأشواك التي لا تنفك عن كل صبارة.
سرتُ إلى الكتابةِ إلى صبارتي قائلاً :
مرّتِ الأماد فعلاً، وكأننا قد خلقنا من جديد يا حبيبتي بصفاتٍ جديدة، فالجسدُ الذي لم يقدر أن يحتمل ألم شوكك أصبح غيمةً تسعى بالأرضِ لا يضيرها أن تمس بالأشواك أو السهام و النصال. وأنتِ يا ذات الجمال الذي بلغ في سويدائى محلاً جليلاً عِمت مساءً إلى لقاءٍ لا يقضى من الانصهار.
ها أنتي الآن أقدرَ على الوصلِ، وقريبة حدّ وتين، و لصيقه كقبلةٍ مديدة يبقى أثرها طويلاً ليدل على اللقاء الذي لم ينتهي مُذ ابتدء.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...