لا نداء اليوم فصوت الصمت يعلو كل صوت







٤،


الرؤية التي تتكرر، تريد ليّ أن لا أنام، لذلك تطرق الأبواب كلما سنحت لها الفرصة بذلك.


استيقظتُ مبكرًا ولمّا أخذ كفايتي من النوم يبدو أنّه استقل أحد الحافلات الصباحية مزاحمًا نزَق الحيارى في الطريق مقاسمًا إياهم رغيف الترقبِ المشومِ بذاكرة، إيّه يا الصباح المُطرز برائحةِ الخبز ما عسى الصباحاتِ أن تكونَ دون الرغيف؟.  


افقتُ قليلاً على هدى القهوةِ العربية المُزعفرة التي تعكس شيئًا مِن وجهي في قعرها، وأقلبُ الفنجان جهةَ اليمين وجهة الشمالِ، ليست القهوة من سيحملني من هذا المقامِ الغريب إلى المجهول عائدًا لسدّة الكتابةِ العلياء.


لا غرو فالقهوةُ التي لا يوقضك عطهرها لن ينشطك مذاقها.  أتحدثُ بعمقٍ الأحاديث العائلية مع إخوتي في هذا الفجر الذي يتسربُ من النوافذِ برفق، ويخطو بمضي الضوءِ من الدهليز المؤدي للصالة حيثُ نجتمع الآن على هدى الأحاديث الصامتة جدًا، الأحاديث التي تجمعنا على صفيحٍ واحد وقلبٍ واحد، بينما تتقافز القطط تارةً مِن مقاعد الجلوس إلى النوافذ المشرّعة وتارةً تتسلل بين أقدامنا فأصيح قائلاً كالعادة: أبعدو هذه القطط حتى لا أقطع لها تذاكر بلا عودة لحديقة الحيوانات بينما أتناول قهوتي، و أمهرها بقليلٍ من الشوكلاته بالبندق! 


حقًا إن الصباحات التي تشعل جذوةَ عشقي، هي صباحات لا ترحل، لذلك تبقى خالدةً في الدفاترِ التي تتخذ طريقةً عريضة في المكتبةِ البيضاء الصغيرة، وأحيانًا في الطرقِ الطويلة التي لا تنتهي إذا ابتدأت بقصة. ترنُ الساعة التي لم تفق منذُ خمس وسبعين عامًا، حي هلا هل نحنُ على موعدِ آخر للولادة من الولادة؟ لم ننمو بعد يا حبيبتي، لم نصنع من ذكرياتنا قصرًا رمليًا يتعبثُ به الموج ويأخذه إلى البعيد! 


أتحدثُ، بينما أخطأت يدي توجيه الريموت كنترول، لأرى مُذيعًا للأخبار يحكي عن المُفرعات بوجهٍ مُعلب، الصوت موصد، والباب يطرق. لماذا أنظر لهذا الوجهِ المُكفهر، عليّ إذًا بالكرون فيلكس باللبن البارد، فلا شيء يزيد من لغواء القيض سوى خبرٍ كريه. 


أغمضُ عيني، أهرعُ إلى نفسي، متأملاً الأشجار التي تنمو فيّ كيف أثمرت اليوم بملايين الكلماتِ المقروءة، حتى أخرج مِن جسدي، مِن حدّه ومن جلدهِ، لأبدأ رضيعًا في مِحراب المعنى لا يألوا على شيءٍ سوى اليراع.


تغيب الأشياء، حتى صوتُ المكيفِ الشبّاك الذي أزمع مع سبق الاصرار والترصد أن يُفسد جل فدوياتي الأدبية، و أن تتطاول يديه على الصمتِ الذي يشتهي ففز صارخًا مِن جوفي، مع كونه أكثر الأشياءِ اللصيقة بي ثرثرةً أحيانًا استمع إليه وأنا على بعدِ أميال عن الغرفة، يبدو أنه زرّع في قلبي صوته الساعي بين الذكريات يُقلبها، ويبثُ فيها الحياة كانسًا عنها المقامَ الطويل خلف أغلفةِ الصور، وخلف أقنعةِ الجمل اللطيفة والموحشة أحيانًا.


قرر الشبّاك فعلاً أن يخفض صوته كثيرًا فعددتهُ قد صمت، فلا يمكننا أن نلوم الكائناتِ على التنفس حتى تبقى صامتة، أتحسسُ حشرجته بآذان الفؤادِ، وألمسُ أحاديثهُ بعينيّ القرَّاءْة متشنفًا ومترنمًا. 


مغبةُ هذا اللطفِ أن تبقى وحيدًا فلا مساس،  تسعى كزئبقٍ لا يوعى، يزلق بين الأيدي وفي الدروب الطويلة بحريةٍ بالغة يتزلجُ تاركًا دِبَقًا لا تدل على شيءٍ سواه، ومع هذا لا تكفي للدلالة على شيء.


 لا مساس يا قلبي إذًا؟ كيف لا وقد تفجرت أنهار الصبابةِ مِنك لتبلغ كل حوضٍ في الكون لتعتريه... يبدو جميلاً هذا التشكل أن أكون شيئًا في كل الأشياء، وأن أمس كل قصةٍ بقلمي الذي لم يفتأ عن الكتابةِ لحظة لأنه لم يغادر أبدًا اللحظة الأولى التي كتب فيها ! 


لا نداء اليوم فصوت الصمت يعلو كل صوت.







تعليقات