١٠،
أمام المرآة أرى وجهي بين الفينات وقد تحوّل وتبدل، وأشهدُ في كل سحنةٍ تعتريه ذاكرةٌ تتصل بالبعيد، بالأرضِ العامرة، وبالناسِ والتفاصيل الكثيرة إذ يتحول الهندام في كل فترةٍ أراها تسعى فيّ ربيعًا منسابًا…
لا غرو، فإنّ منبتي مزروعٌ في قرى نجدية وإن كنتُ قد ولدتُ بالرياضِ البهية، فإن دمي قد انبث بالقرى و عُجن في بيوتها و لبنها وروي من مائها أما يديّ فليستُ إلا من تِلك الأيادي القديمة التي أعمل بها الطينُ أثره فصارت بهِ أعمق وصلاً، وأدقُ وعيًا بما تعودُ إليه، وليسَ صوتّي إلا صوت الحُبّ الذي تسلسلَ في الأجسادِ التي ذاقت الرحيل لتتصل بمكمنها ليعودَ صوتًا لي.
استيقظتُ مبكرًا متهللاً بالعيدِ السعيدِ، وعلى وجهي نفحةٌ من التباشير و التهاليل... وأكاد من الفرحةِ أطير مع أسرابِ الهياثم التي لا تبارح الفضاء إلا قليلاً، خرجتُ إلى فناء منزلنا ولما يهبط النورُ من عليائه بعد، ولحظت طرفَ رسالةٍ في صندوقِ البريد الصدئ الذي لم نستخدمه منذُ أعوامٍ طويلة، فطفقتُ أجمع الأفكار من الأجواء من ذا الذي يرسلُ علينا ؟ وبعد هنيهةٍ فضضتُ عني التساؤلات وتوجهت للصندوق لأخذّ الرسالة.
تأملتُ بالظرفِ، فإذا بهِ خالٍ من العلامات سوى علامةٌ لشجرةٍ كبيرة متمددة الأطراف والجذور لم أستبن لها اسمًا، فتحتُ الرسالة والذي جاء فيها :
" أيها الفريعُ الندي، والغصنُ الصغير الوفي، وجامع الاشتاتِ بعد الشتات، وحافظ الروابطِ من يدِ صاحبّ الفأسِ الغشاش، إنّي أُمك المحبة، الشجرةُ التي خرجت مِنها ثمارك اللذة للبرايا، و معانيك المودة، وقربك الأصيل لجذرك الأول النبيل لغةُ الحب التي نمّوت مِنها واتسعت في القلوبِ أثرًا مبدا"
ابتسمتُ، ورحتُ اعمل في قلبي التذكر؛ لأرى دَمي كيف مضى بين الكلماتِ التي كتبتها بالأيامِ ثمّ زهى ورونقَ المعنى حدّ الاكتفاء، وكأنّي بي أكتبُ سيرةَ الانتماء مُذ الخلق وحتى الآن، وأشهدُ على جلدي تنقل الأجدادِ مع حركةَ الأفلاكِ، وما وارى ذلك من ظلِ الأشجارِ العميم الذي يتبع المسيرَ في الخفاء، و يساقط الثمار الندية في خلو الأفئدة عن التفكر، فيجدون في الأماكنِ بغيةَ بقاءٍ ونماء، وفي الكرّات تلو الأُخر تعاد القصةُ مِرارًا: ثمارٌ متساقطة، و وجوه مستبشرة، ونخيل باسقة متطلعة للحُبّ …سرتُ الآن أمسُ بيدي النخلة الشماء في دمي، و أغذى بثمارها الوروفة وقد أدمنتُ النظرَ في روحي وقلبي فتركتُ كل نظرٍ في عداه إلا من اللمم و الشذّار القليلة.
استعديت بحلةِ العيد، أجمع الذكرياتِ الحلوة وانثرها في غرفِ البيت اللطيف، فأرى في الحلةِ شهودًا كثر في سلسلةٍ ممدودة للحُب، وأتناول مع الحلويات مزيدًا من الذكريات الحلوة، و ارتشف مع القهوة أحسن الرحلاتِ في الفلاة والمُدن؛ لأذوق تمر أشيقر وسدير في الرياض، ويسعى في جسدي من تاريخها وآثارها ما يقومُ به أمري، ويستوي بهِ فكري ساعيًا، وما ينعمُ على قلبي بالمحبةِ فوق المحبةِ التي عاشَ، و أنفض عنّي كل ما يشتت جذري البعيد، فأي ماءٍ أرتوي إذا فقدتُ وصلي بالشذا و أي وجهٍ ارتجي وقد فقدتُ وجهي بالصدى الأثمِ.
ثمّ تذكرتُ الرسائل الكثيرة والعبارات الفضائية العجيبة التي تحثني على الحكمةِ وما كنتُ مجانبًا لها فقوام الأمرِ أني بار بأرضي و منبتي متصل لا يعرفُ الحدود ويمسُ النجومَ الغافياتِ ليتطلع للنور الذي ينمو في القلوب ليجعل أصحابها أكثر اشراقًا و اندى كلامًا وأبلغَ وصولاً دون الطرق، إن حكمةً تكون بالصمت في كل أحوالها لا يعول عليها.
لقد أصبحتُ في العيدِ فرحًا لأنّي أصبحت أشدّ وصلاً بكل ما مررتُ بهِ، بذكرياتي العامرة، و باللحاظ الرقاصة تتخذُ من الدورانِ في محراب العشق دليلاً لها وطريقًا، وهكذا وصلت الكثير وبلغتُ بيوتات كثيرة أسعى في مباهجها كنورٍ عميم يتصل ويبلغ الأرجاء بالحب مصافحًا ومعانقا.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...