١٢،
احتفلتْ شجرةُ الصبار بيومِ ميلادها دون أن تنطق بحرفٍ واحد تضامنًا مع الخِراف التي ستذبح في يومِ النحر، وقد أرفقت برسالتها قبيل أسبوعٍ لي تلميحًا بأنها تزمع على أن تحتفلَ وحيدةً هذه السنة فكل الناس والكائنات منشغلة بعيد الأضحى وبمتابعةِ الحجيج في زمنِ كورونا العجيب، وقالت أنها ضجرة جدًا لكنها لم تُحبّ التصريح هذه المَرّة.
مرّت الأوقات التي تجرُ العيد السمين بحللهِ الثقال، و بمباهجهِ الحسان، و بخيراتهِ الوفيرة، وبتباشيره النثيرة
جاء العيد، وسحب تلابيبي إليهِ، وصرتُ في تفاصيلهِ منشغلاً، و بحلوياتهِ متفكهًا، و بقهوتهِ العربية شاربًا ومستمتعًا، و بأحاديثهِ مُتغذيًا ، و بالتهنئات والتبريكات مستبشرًا، حتى حان وقت الغيبوبة اليومية فراحت بقايا اليوم تتجمعُ في آخر ربع ساعةٍ مِنه قبيل منتصفِ الليل، نهضتُ من فراشي ولم تزل من سحنتي بسماتُ الصباح، وعلق بيّ من شذرِ الأوقاتِ الجميلة جلها أما الباقي فتغلغل في جسدي وأسكن باطني وأزهر وأثمر فلم يبارح العيد أحاديثنا، ودلفتُ أرد على الرسائل الكثيرة بالحُبّ الذي يسوق حروفي وجُملي بعطر المودّة والاخاء، وبينما أنا على هذه الحال، ملء ذهني بصورةِ شجرة الصبار وسرى إلى سمعي صوتها وكلماتها وهي تحتفلُ بيومِ مولدها، اليوم الذي نهضت فيهِ عن طوقِ الأرض إلى وسع الجو الشاسع، وراحت تجعل مِن ذاتها منتجاتٍ كثيرة من العطور ومعاجين الأسنان و الشامبو وغير ذلك فدخلت بيوتًا كثيرة، وعبرت حدودًا ليست لها تستطيع الحصر، وسار شذاها في البلدان التي اختطت إليها السفر ثُم قَر…
ورحتُ أقول في نفسي لقد مضى منتصفُ الليل، ودخلنا في اليومِ الجديد، وصديقتي شجرة الصبار تهوى التقيد بالأوقاتِ فهي ومنذُ كانت بالثامنة عشر من عمرها تغير عمرها في مواقع التواصل الاجتماعي بالعمر الجديد بعد كل يومَ ميلاد، وهي مؤمنهٌ أن يوم الميلاد لا يعود إلا بانقضاء سنةٍ جديدة قبيل اشتداد الحر الذي يطبخ التمر ويؤهله للقطافِ سريعًا، لكني رغمًا عن ذلك أردت الاحتفالَ بيومها الميمون، اليوم الذي تنزع فيه أشواكها، وتزدانُ فيهِ حدًا لا أعيد بخيالي فتفاجأ فراسلتها وطلبتُ منها الاحتفال بيومها في إحدى الصحاري وعلى ضوء النجوم والأقمار البعيدة فقالت: لقد انقضى يومي وبهِ احتفلتُ فقلت لها: ولماذا لا نغير يومًا في هذا التاريخ فالملكة إليزابيث لها يومي ميلاد، فقالت لي: إنه الجنون بعينه وهل يمكن ليوم الميلاد أن يتغير؟ إن الجنون جميلٌ يا عزيزتي عليك الاستعداد ليومٍ جديد، فكلنا نولد مِرارًا وتتغير أيامنا كثيرًا غير أن ما يبقى من التدوين لا يعود كما هو في كل مرّة نراه، أن أيامنا الحلوة مصنوعة من ذكرياتنا وفيها نولد كبرعمٍ صغير يتطلع للوجود بشغفٍ كبير للحياة يتجدد بصيغ ورؤى جديدة ، انتهت مراسلتنا.
ذهبت إلى غرفتي أبحث عن القلم الاخضر، وأمامي وريقات قد أعطاني إياها أديبٌ خرجت معه عما ينيف الخمس وسبعون كلمةً للكتابة فبقيت من أثار هذا اليوم هذه الوريقات و بدأتُ أكتب تاريخ شجرة الصبار الجديد المملوء بالحُبّ، ورحتُ أضمها لسويدائي واستطيب أكل المربى الصباري المستخرج مِنها، والكعك المطرز برائحةِ وأعشابِ الصحراء، و انزع من تاريخها كل شوكةٍ لأجعلها وردة معمرة، ورائحةٌ طيبة مبشرة ثم أقبلت على الكلماتِ فقبلتها وأنبتت من كل كلمةٍ أزواج من الكلمات الحلوة ذات المعنى البهيج.
أغمضتُ عينيّ قليلاً فإذا بشجرةِ الصبار مُقبلة لي وبها من الأشجان لغةٌ تقرأ ومن المعاني لقاء لا يغيب في الجسدِ وفي الذاكرة!
جميله جدا��
ردحذف