١٣،
منذُ الطفولة وأنا لا أعرفُ عاطفتي اتجاه الكائنات والأشياء؛ لأنها لم تَكن كأي شيءٍ حولي يستأثر بكل شيء، وينسبُ إليه كل شيء!
لم أُحب الاستئثار بالأشياءِ وأحيانًا النظر لها؛ فلعبي و أغراضي متاحةٌ دومًا للأطفال الذين يزورون بيتنا مع أمهاتهم دون حدّ أو ممانعة.
أتى أبي بطيرين في قفصٍ صغير من مزرعتهِ التي تبعد عن المدينة ثلاثمئة كيلو مترًا فأقبلتُ عليها ثمّ قلدتُ الصقارين فوضعتها فرادا على كتفي وأطلقتها للسماء لكنها لم تكن تعود كما تفعل لُعبي وقد حطمت بشراسةِ الأولاد الذين ينقضون عليها ليأخذوا شيئًا مِني لكني لم أكن هناك أبدًا…
وبعد أن غادرنا بيتنا المنزوي في الشارع الصغير إلى بيتٍ أكبر، جمعتُ لعبي و وزعتها على إخوتي الصغار الذين شاركوني بحبٍ الطفولة الجميلة لكن لعبي لم تعد بعد ذلك أبدًا.
الشيءُ الوحيد الذي بقي صامدًا بحوزتي هي المكتبة الحديدية السوداء التي وضعها أبي في غرفتي لأنه الشاغر المناسب الوحيد في المنزل… بَقيتْ الكتبُ طويلاً دون أن تُمس غير أن الكتب المصورة هي الأشياء الوحيدة التي فقدت من مجموع الكتبِ المصفوفة؛ كانت تقومُ برحلةٍ أبدية للعبي التي نُسبت للضياع.
وعندما بدأ الشباب يدبُ في أعضائي وبالمدرسة تعرفتُ على صديقٍ جديد، كان يمتلك تلك الأبهة العجيبة كالمهرجين و كمًا من الأحاديث الذي لا ينتهي ممهورةً بالنكاتِ واللعب لكن استغرابه مِن أن أي شيء يقوله لا يحرّك بي ساكنًا جعله يستمر بالمحاولة للأبد.
وفي أحدّ الأيام التي اتفقنا فيها للذهاب سويًا لاداء الفرائض العملية التي حثّ عليها مُدرس التربية الفنية جاءني صديقي بسيارتهِ الجديدة التي لم أكتشف لمعانها إلا من بريقِ عينيه حينما صدح يقول: ألا ترى شيئًا جديدًا ؟ بارك على الأقل؛ كانت بروتوكولاتي الغير مكتوبة لا ترعي لأي قشرة أو تمظهر تفاعلاً حتى أني لم أعلم أن ياقة ثوبي قد مزقها غاسل الثياب إلا من طلابِ الصف الذين يستطيعون رؤية كل شيء لذلك استخدمت عيونهم كثيرًا لرؤية المادة المتغلغلة بالتفاصيل كيف تجمع وتفرق الموجودات في معمل الكيمياء …
ظننتُ أن الفعل العاطفي الوحيد هو تأمل وجهي بالصباح كيف تدبُ بهِ الحكايات الجديدة التي تنتظرني بغرفةِ الطعام حينما أعودُ من المدرسة؛ إلا أن ولادة إخوتي الصغار حرّك بوصلتي نحو التغلغل بالعائلة فلم يكونا يحسباني إلا أبًا لهما وبعد سنواتٍ قليلة علموا أني لستُ سوى أخ يترقرقُ منه النور اللغوي، فقد تكوّنت كتابتي على هدى رائحةِ الكتب القديمة إنها الوجهه الوحيدة التي اختطت لحياتي…الوجهة التي جعلتني رئيسًا للعائلةِ حينًا قبل أن يعود بي الزمن كرّة أخرى لأصير طفلاً مِن جديد.
لما يتوجبُ عليّ أن أحكي للآخرين وللكائناتِ ما يريدون سماعهُ في نشرةِ الأخبار مساءً؟ أو أعيد صياغةَ قصص شباب الاستراحة الباهتة، أو توقهم الغريزي نحو الهاوية إنه السؤال الذي جعلني أكتب وأتحدث عن داخلي الذي رأيتهُ يومًا بعد يوم أمام المرآة، واستمتع بتعليقاتِ القراء إذا قالوا أنها تسبب لهم الصداع فأكتب روشتة لا شيء فيها إلا بندول نايت!
ومرّة بعد مرّة كشف لي أن العلاقة التي تربطني بالكائنات مهما اختلفت هي اللغة التي تحمل خيطًا رفيعًا لا يقطع نتصل به ببعضنا وأعيد بهِ صياغة الذكريات… لم تكن هذه العلاقة عاطفيةً أبدًا كانت الخيوط مَحِيِّكة من نور لا تعرف الحدود وتنسل عبرها لتصل لكل مغزىً عميق لذلك لم أستطع يومًا أن اهتم بإنسان أو كائن أكثر من هذا فكل اهتمامٍ يبلغ بي إلى مكانٍ آخر بعيد؛ إلى أراضٍ جميلة تبنى فيها الذكريات على هدى يراعي الكتَّاب…
أصبح كل اتصال وكل شيء وصلاً لي إذ أبلغ بمصافحةٍ واحدة قلبي الذي يتحوّل ليشخص أمامي، كان اللعبة الوحيدة التي تبقت مِن لعبي التي التهمها النسيان بنهمٍ عجيب فهي حلواه اللذيذة.
وأخذ قلبي بيدي برفقٍ إليه نعبر البراري والبحار، لم أفقد لعبي أبدًا لأنها كانت مبذورة في اللغة التي تنمو شيئًا فشيئًا في جسدي، و اشهدها تصنعُ التحولات في الحكايات التي أعيشها رأي البصيرة هكذا كنتُ أعود بكل الأثناء إلى بيتنا وأعيد أحاديثي مع أجدادي بالحركةِ البطيئة و ألون الأماكن من جديد و اربت على الكلماتِ التي كتبتها لتعيد ترتيب وجودي وسط هذا العالم الذي يتزيا بلباس المعارض الفنية المنشورة على سطحِ كوكب الأرض… وبعد امتداد علاقةٍ جيدة بالكتابةِ التي تعتمر جسدي عرفتُ أنّي أكثر الكائناتِ اهتمامًا بالكائنات ولولا ذاك ما كنتُ لاستطيع التقاط وجهي في الساحات المكتظة بأشباهِ ممتهنين الكتابة.
وأصبح تحوّل بصيرتي لما وراء الأشياء يجعلني زاخرًا بذاكرةِ هذا الكوكب بنفاذي من كل قلبٍ لقلبٍ آخر، و بالرواح من كل جسدٍ للروح، ومن كل روحٍ لانبثاثٍ يجمعني بكل شيء؛ لكنه لن يعود كذلك إن انا وجهت نظري لجزءٍ ما يصله بصري وتعبره بصيرتي للا منتهى… أعيد مِرارًا العودة للكتابةِ لأحلق بأجنحة الطيور التي اطلقتها للفضاء وعادت تُحمّل أقلامي مزيدًا من الحكايات…
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...