١٧،
في المخزنِ المهجور ببيتِ جدي، وجدتُ صندوقًا حديديًا يحوي على لعبٍ مسيسةُ القرّب بالقرونِ الوسطى إذا ما رأيتها بعينيّ ابن المدينةِ التي لم يعرف عنها الا الاتساق واتخاذ شكلٍ جمالي مُعين يمكن أن يفسر عن الكثير بالتأملِ…لكن هذا التفكر قُض باصدار هذه اللعبِ صوتًا مزعجًا هد مسبحةَ فكري المتقد في هذا المكان الذي يبدو أنّه اقتطع له جزءًا خاصًا من الوجود خارج هذا العالم، لم يكن ذلك غريبًا فالأرضُ التي يقع عليها لها صكّ مستقل عن أرضِ المنزل وكأنما هناك حدّ ما يفصله عن كل شيءٍ آخر في البيت الصغير، وحتى الحديقة اللطيفة التي تعمرُ جوانبه بخضرةٍ ملحوظة، وبنسيمٍ يتحولُ إذا ما سلم على عسيّب النخيل قبل أن يصافح الوجوهَ والقلوب.
تركتُ هذا المكان، وقد حملتُ معي الجلبة الغريبة التي تصدرها هذه (القراقيش) خصوصًا أنّي جمعتها لبعضها البعض، مما أعطاها صوتًا أكثر حِدّة وازعاجًا حدّ أن نسيتُ فيما أنا مُقبل عليهِ. وكنتُ قبيل دلوفي المخزن استمع لكلمةٍ لولبية، كادت أن تخرج فكيّ من موضعهِ من شِدّة الضحك، كلمةٌ تريد ليّ أن أتحوّل بشكلٍ ما عن طريقِ عبور طريق النعيق لأصبحَ شخصًا آخر يرددُ قولاً ويمتهن أفعالاً لا يعيها ولا يعرفها، ويرتدي اسمه كما يرتدي ثيابهُ ويلفظ لغته بمحض التحولات التي تعتري محيطه دون أن يعي شيئًا باختصار؛ أن أكون نسمةً غير محصاة تذروها الريّاح وعوامل التعرية، أو حتى أن أجعل اللغة برمتها مبنية على المجهول!.
شعرتُ بنشوةٍ وقد أعجبني أن تأتي الريحُ وتأخذ مِني ما تشاءُ عاشقًا وراغبًا فأتطاير في هبوبها كورقةٍ معلقة بالفضاء، وأن أراها وهي تلتهمُ ذكرياتي شيئًا فشيئًا كما نتفكهُ بالحلوى والكعك وما لذّ وطاب من الطعام الذي يتغير ليصبح طاقةً محضة، حتى لا أعود شيئًا في الأرقامِ ولا في الأسماءِ، وأشرع لجناحيّ الكتَّابان الامتدادَ فلا أفتأ لحظةً عن الكتابةِ حتى يحين الأجل، وأفنى فيما كتبتُ.
ورحتُ وأنا في طريقي للتهّجع اختطُ سبلاً في جسديّ بجسها والحكايةِ معها، للتوالد إليّ أشجانُ النجومِ من البعيد، وتهرق الدموعَ اللماعة على يديّ التي لا تمسُ إلا الجذور مُذ وعيت، ثمّ تذكرتُ كيف سلوت في البيداء عن اللعبِ الخراشّة، ونقلتها من ظلمتها إلى ظلمةٍ أخرى في البيت الذي لم يعد يحبُ حكايا المارين عليهِ، وصار يتشهى الصمت المطبق الذي يمهرهُ به بقية السكان إلا من بعضِ نواء القطط البريئة التي أرى في قوائمها عمادات البيتِ الآيل للسقوط.
كنتُ ألحظ كثيرًا كيف تخبئ الكائنات أشيائها وذكرياتها، حتى تحس أنها لا تعي شيئًا ولا تعود تتذكرُ شيئًا؛ لكن فلمًا ينقل مشاهده إلى سيالتهم العصبية المشدودة ويحرّك مسرحياتِ الصمت بهدوءٍ نحو الهاوية، حتى تأتي القشة القاصمة على هيئةِ جرحٍ أو كلمة أو تصرف يهد كل شيء ويشعل جذوة الصراع الدفين الذي يحشدُ جيوشه منذُ القديم!
أحيي تربةَ الأرضِ بغرس أصابعي فيها، وأتحسسُ الطينة الأولى التي نعود إليها كيف حوّت ملاين التكونات على هدى السعي الوجودي في الحياة الدنيا كيف كتبت أسماء ثم محّت أخرى وكيف ترعرع في رحمها بعدد النسائمِ ما لا يحصى من التحولات، ثمّ أنهض لأبحث عن القراقيش المُجّهلة في البيت.
تركتُ سجادتي التي لم ترغب أن تفارق معانقةَ الأرضِ الفواحةِ عطرًا على هدى الرمال التي تحجبُ شيئًا من خيوطِ الضوء المتوارية تريد لتحيتها أن تتغلغل في قلبيّ إلى نخاع الذاكرة حيثُ القراقيش لا زالت تُعمل موسيقاها قائلةً: هلما إليّ إن لي عليك حقًا في الوجود!
وصلتُ للمنزل في هنيهةٍ ضوئية مَحت الأشياء وأبدلتها جلدًا آخر يحوي تفاصيل ملونه، وطوي الطريقُ على رغبةِ المثولِ إلى البيتِ الذي يتوارى خلفَ الظلال التي تعكسها عليه النخيل السامقة في المزرعةِ المقابلة للنور مما ملَّكة هبةَ برادٍ سمينة بالتنوع.
بحثتُ عن اللعبِ ذات الأصوات فلم أجدها، وقد أنهكني على طول سهرٍ البحثُ عنها مع أنّى اسمع صوتها في كل غرفةٍ ومنحى فيهِ وكأنما قضمت نواء القطط الذي لم يعد مسموعًا، نمت قليلاً ثمّ ايقضني عسيّب النخلةِ خلف المنزل فنهضتُ لأرى اللعب ذات الأصوات قد أصبحت جذورًا للشجرةِ التي أعشق؛ الشجرةُ التي قررت مغادرة البيتِ الصغير إلى المجهول مع نسمات الضجيج في الفلاة.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...