١٤،
الشيء الذي جعلني أقرر أخيرًا أن أذهب بسيارتي للصناعيةِ القديمة هو اصرار خالي الذي يقطنُ بيتنا في إجازة العيد السعيد والذي دفعني إلى الذهاب ومؤشر الحرارة يشيرُ إلى الثالثةِ والأربعين فعجبتُ من أهل الطقسِ أيّن هبوبُ النسناس كما يقولون، وكنتُ بعد أن علمتني كورونا درسها بالاسترخاء العجيب مسحورًا في التقلبِ على الأسرّة والأرائكِ أقلبُ بصيرتي في الوجودِ و أتفيضُ بالسكينةِ إلى الزيادةِ عليها وتوزيعها على الناسِ والأشياء حولي، وقد فطنتُ أنّي فعلاً فترتُ بعد ما ذهبت عدة مرات لأكثر من جهةٍ للصيانة ولم ألقى حلاً مُفيدًا، فقلتُ عليّ إذًا أن أتوجه مع خالي هذه الأثناء أيّن يكن من أمر.
لم يكن للحديث موقع مِن رحلتنا، إذ أشرعنا النوافذ التي تلفح وجوهنا من الهواء الحار، مُرّ من خيارين أن نكتم وجودنا أو أن نلتحف بهذه الهبوب الصيفية العجيبة، الشيء الوحيد الذي استطعت أن التقطه من فِيّ خالي أن درجة الحرارة خيرٌ من درجات الحرارة في الأيام الفائتة كفانا الله حرّ جهنم، آمين.
سعينا في طريقٍ يلتوي ليميل بنا إلى مداهُ الذي عضد بالجسورِ الصغيرة التي لا تستطيع أن تقلنا بصمتٍ وصوتُ الفراغات التي تستوعب تمددُ الحديد وتقلصه تلقي علينا تحية المساء بعبقِ انسلالِ النهار شيئًا فشيئًا، بينما تُصور مناظر أبها البهية شجرةُ البلوط في رحلتها لزيارةِ أشجار العرعر الجنوبية؛ لا بأس إني مشغول الآن، ولن يتسنى ليّ أن أتأمل فروع الشجرة البهية.
وصلنا أخيرًا لاخصائي التكييّف، لكني لم أفطن لموقعه أول الأمر إذ وقفتُ عند الورشة المقابلة تحت ظل كلمةِ تكييف وكأنما اتعلقُ بقشةٍ لأخرجَ من غرقي في سمومِ الهواء الممزوجة برائحةِ الازفلت التي تصفعهُ الشمس كل برهةٍ ومع هذا يبقى عاشقًا موليًا وجهه قِبلتها !
مع ارتدائي هذا الكمام في عِز عِز القائلة ولو انتصف النهار بالكادِ اتنفسُ ويخيل ليّ دومًا أن خياشيم ستنبتُ على هذا الكمام البلاستيكي الذي ابتعتهُ مع أحدّ المُقدسةِ للعمل؛ ولا أدري حقيقة كيف يمكنه أن يؤدي أعماله الميدانية بهذا القناع العجاب، فلا أكاد أستنشق من الهواء إلا قليلاً.
انسللتُ مع الروّاح يمنةً ويسرة لمحلاتِ قطع غيار السيارات التي لا أفقه فيها شيئًا وعودة لورشةِ التكييف التي يتوجب عليها أن تعمل لثلاث ساعاتٍ وأكثر حتى تنهي معضلة تعانق فريون سيارتي مع الهواء وعشقه الذي سلبهُ ففرغ في شهرين...
قررنا بعد مشاورةٍ طويلة مع خالي، أن نعود للبيتِ ونتكأ لشربِ الشاي والقهوة، ونلتقي ببقيةِ الأخوال والعائلة الذين قدموا في يومِ ذهابنا للورشة وقد كانوا يؤجلون القدوم لظروفٍ ألمت بهم، فلقينا من الأحاديث الطيبة نفحةً من العيدِ اللطيف، ومضت حكاياتُ خالي لنا عن الثعلبِ المكار ومحكمة الغربان بضحكاتنا حدّ أن تسمع في البيوتِ المجاورة التي تركها أصحابها لقضاء إجازةٍ سعيدة في العيد.
تذكرنا الماضي فمثلَ حاضرًا يسعى في وجوهنا ويلون ابتساماتنا بالاشراق، و يمسحُ على وجوهنا بسُحن الأجدادِ والجداتِ فنصيرُ ممتدين لا يفصلنا زمانٌ أو مكانٌ عن طينتنا الأولى و معدننا ونزيدُ اتصالاً بالأشياء وودًا، وأجهزةُ التكييف الباردة تضفي على جلستنا رونقًا مُريحًا ونحنُ نتدافع فناجين القهوة وأكواب الشاي اللذيذ مع الحلويات والمكسرات ولطائفِ الأمثال والاشعار والحكايات.
دلفتُ قليلاً إلى غرفةِ النوم حيثُ وضعت جوالي الذي يرن، ثلاث مكالمات فائتة من أخصائي التكييف، عاودتُ الاتصال: هل أذهبُ إلى منزلي أم ستأتي؟
- مسافةُ الوقت هو الطريق.
- ماذا؟
- سأتي قريبًا.
انتعلتُ حذائي الرسمي خصيصًا لهذهِ المناسبة لكن هدومُ المنزل لم يطرأ عليها أي تبديل، ارتديتُ كمامةً قماشيةً خفيفةً يكادُ وجهي يرا من خلالها، لابدّ وأن لا أغير هيئتي فربما عادت شجرةُ البلوط ونسيت وجهي بعد إذ ذاقت وجهَ الصبابةِ في نسيم أبها، وسمعت أغنيات المدِ والجزر في جدة، وراحت تصافح الجميع ضامةً لهم بظلالها الوارف وبجمالها العارف وبحسنها الذي لا يغيب عن الأذهان ويستطيل المقام بالذواكرِ والأبدان.
استلمتُ سيارتي العزيزة، وانطلقتُ في شوارع الرياض العجيبة، حيثُ تزدحم وجُل أهلها قد أخلوها لملاقةِ صيفِ الجبال، و التنفه بعيدًا عن الرمالِ والصحراء لعلها تغار فتزهر وتخضر ليعود لها عشاقها السُمّار الذين يتحضنون أرضها باشعال النارِ على ضوء القمر، ومداومة الأحاديث بالتحلقِ على الأغادير وبالقرب من مجاري السيول ومن المناقع التي يخضر على جوانبها العشب ويزدان البقاء فلا تكادُ ترى مفحصَ قطاةٍ لتجلس وتتنعم.
عدتُ إلى المنزل، وأخذتُ كفايةً من الأحاديثِ التي توشي كتابتي بعبقٍ من ضياء الشوق الممتد من نجدٍ إلى الحجاز وجبالِ السوداء وكل مكانٍ يزهرُ بالحُبّ ويتنعم باللقاء الجميل في قلبي الوضيء.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...