١٥،
الطريقة العجيبة التي يفكر بها المحامون تجعلهم يرغبون بالانفراد بالعمل للاستئثار بالكيكة كلها؛ وكنتُ أتعجب كيف سيكون طعم الكيكة لذيذًا إذا لم أدعو لها الأشجار التي يهيمُ قلبي بها والأصحاب الذين يضفون على الأجواء رونقًا لطيفًا.
بل كيف سأتحوّل إلى مكينةٍ تعمل طوال الدهر دون كللٍ أو مللٍ و أترصد لاجازات المحاكم لأزيد من حصتي اليومية في النوم، وفي مقابلةِ الأهل و الصحب، أو القيام بأي شئنٍ خارج إطار القانون و متاعبه بعد أن تهيكل جسدي وعقلي على أن يعمل طيلة الوقت، ربما هذا ما يسميه موظفو الحكومة حمار المكدة… فاشفقت على الكدادة المغرقين كيف لهم أن يستلذوا بإنسانيتهم وأن يركنوا قليلاً إلى دعةِ العيش فيستجد شغفهم وتتفتح مسام ابداعهم ويرتفع وهجهم الجذّاب.
لا أريد لحياتي أن تتبلور في مكتبي، وأن يلاحقني الميزانُ في كل الأماكنِ فيطبعَ على لغتي سمتًا لا ينفكُ عن الدِقة، و يجعلني في لفظي محددًا مقلاً كمادةٍ نظامية، ويصبغ سحنتي بصرامةِ المحاكم فلا أكدُ ابتسم إلا قليلاً وإنما الأمر ساعة وساعة...
يبدو أن المحاماة ينقصها من الاحترافية الكثير لدينا، صرحتُ برأيي لزميلٍ قانوني تعجب من قلةِ شركات المحاماة القائمة التي تزيد عن ثلاثة أشخاص وأن قوام هذه المهنة ما زال على الفردِ الواحد، وكنا نتسامر في الليالي الطوال على هدى الغيوم التي تزحفُ على مدينة الرياض الحلوة لتصافح توقها للمطر من البعيد وهي تزدان وتتطور قفزًا إلى الجمال، كيف سيكون فيها حال المحاماة وهي من دلائل التمدن والحضارة الحديثة.
لابدّ وأن الأموال ربما أغرت المحامين للاستقلال بانفسهم وعملائهم عن زملائهم فيكون لهم الاستئثار بعلاقاتهم الممتدة التي بنوها، وأموالهم الزاخرة التي حازوها دون شريكٍ مقلق ولا صاحبّ لا يأخذ من الحمل شيئًا ولا يستحقُ أجرًا… لكن هذا الرأي لن تجده يسري عند غيرهم من التجار المحترفين، والعُمال الحِرفيين الذين خبروا العمل وكانوا به ضمن سلسلة متواصلة قبل أن تأتي البيوت المسلحة والشوارع الطويلة الممتدة بتفيض المصالح وتوسع الناس والحياة فيها، وكنتُ إذا تأملتُ الجوانب باختلافها والشراكات بتنوعها المالي و الوجاهي والعملي في غير المحاماة وجدتُ الأمور مستتبة والأعمال قائمة وناجحة فكيف للمحاماةِ أن يدخلها حضُ النفس الكبير في طلبِ المال دون غيرها ؟.
فوجدتُ أن قوام الأمرِ أننا لم نحترف في عمل المحاماة بعد، فجلّ الشركات والمكاتب التي تنشأ تنتهي بموتِ أصحابها، و بإنشغالهم عن المحاماةِ بغيرها من الأعمال، وأصبحت المحاماة بعد منع المحامي من ممارسةِ الأعمال الأخرى ساحةً لحصد الأموالِ لأنها المجالُ الوحيد الذي يتمكن به المحامي من البقاء ومن العطاء وتوسع هذا الهاجس الشخصي لأن قوام العمل فردي فيحس المحامي بأنه من عمل ومن تكبدَ العناء فلما لا يحظى إذًا بكل المال ويغيب عن هؤلاءِ أن الإنسان بحاجةٍ للراحةِ والنزهة والتمتع بالحياة والميل قليلاً إلى الأُسرة ولشؤون النفسِ والروح، وأن في الشراكةِ المدبرة خيرٌ زاخر كثير ورزقٌ أعم وأوسع بتعدد الأعمالِ ووفرة الخبرات من كل مجالٍ قانوني، فيحدث للمحامي التوازن الذي يوازن فيه بين عملهِ وبين نفسهِ وأهله وشأنهِ الخاص فيزيد بذلك ابداعه، وترتفع حصيلته العملية والمعرفية المؤطرة، ويحصل للمهنةِ من التطور والصقل في وصولها للعالمية إذ تتخذُ من طريقتها مِنهاجًا نعرفُ به ويشير إلى حضارتنا المتجذرة في عمقِ هذه الأرض الطيبة.
اطمئننتُ لرأيي، وتحسستُ الخير القادم، والتطور الذي ينمو بنماء هذه الأمة إلى المجد كل لحظةٍ منذُ ابتداء التاريخ.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...