أقفز لألتقط الطائرات التي تحمل كلماتي للوجود!

 




٢٠، 


ما يجعلني رَاغِبًا عن الخروج من المنزلِ، أنّي أعيشُ صِراع القفز إذ يتوجبُ على سمينٍ مثلي أن يقفز مرارًا لِشد الحبل الذي يُؤمِّن باب مدخل السيارةِ الموصد، وهكذا كلما عدتُ توجب عليّ القفز…حتى أنّي إذا وقفتُ أمام المرآة أخالني أكثر طُولاً جراء عشرات المرّات التي قفزتُ فيها لأخرج، أحيانًا وأنا أشاهدُ البلاط الذي كسر مع عاملِ الزمنِ أشاهد قفزاتي ذات ما ينيف عن المائة كيلو كيف تجعل صوتها يشملُ البيتَ وأخاف على الجدار الذي صُدع من أن ينتشر ويقتلع ذاكرةَ الطفل الذي لعبِ بالكرة كثيرًا عليه لكنه لم يعد الآن إلا إلى القفز. 


كلما ذهبتُ لأبحث عن الشركة لتصلح الباب الخرب، وجدتُ محالها مغلقة وهي رغم ذلك لا تجيب على الهاتفِ إلا لممًا، وجداولها إذا عادت من اجازاتها التي لا تنتهي ممتلئة فبالكاد نحصل على صيانةٍ ثلث سنوية! ولتاريخنا البعيد بها أصبحنا لا نصرف غضبًا من أفعالها النزقة، فجل ما في الأمر أني مع اخوتي نوزع بيننا القفزات! 


الغريب أن الأسباب التي تجعلني أخرج من المنزل مُنتشرة كعرضِ المجرة المليئة بالكواكب والأقمار ، فلا بدّ عند الاتصال بالهاتفِ الجوال أن أخرج من المنزل المعزول عن تلقي الاتصالات لاستطيع فهم ما يقوله لي المتحدث فيها وحتى يستطيع هو سماع صوتي بوضوح، فبيتنا يعشقنا بعمقٍ مما يجعله يتضجر إن نحن أعملنا تواصلاً مع غيرهِ، لذلك يعزلنا عن عالم سواه! لذلك لابدّ وان نستنشق أحيانًا الهواء خارج هذا الكوكب.


لطالما خرجتُ لاتمكن خصوصًا من تلقي الاتصالات من أحبابي في القريةِ الممشوقةِ المزينةِ بالطيبِ و الزروع والتاريخ العميم، القريةُ التي اختطت لها ذاكرةً في قلبي لتسكنهُ بعبقٍ من تمرٍ وحِسّ قد تغلغل في الأشياءِ التي تمدُ بنا الحنين، لكن هذا الذي لم يحصل في الآونةِ الأخيرة، فبعد استقالتي من العملِ تحوّلت أيامي والتقاويم إلى كائناتٍ جديدة تمتلكُ قوامًا آخر يفتقدُ إلى الصرامةِ فهو متحوّل، غني و مُتبدل، ويمكنني الآن التأمل بكل شيءٍ، وأن استتبع مواطن السكون في نفسي وأعزّها بالأزهار والأشجارِ بالربيع الذي يتهادى عابرًا حدود الأشياءِ إلى الأشياءِ الأخرى. لم أعد استمع إلى صرخاتِ المراجعين، ولا أشتم نزقَ المتكدسين نحو المجهول لا يعرفون إلا أن خطواتهم تجرهم إلى حيث ينتهي الدوام الرسمي ليعاودوا الكرّة أن يستمرو بالحياة على الشكلِ الذي ابتعاوه من مكانٍ أوصدّ أبوابه من القديم.


لابدّ وأن طبيعتي اليقطينية قد جعلتني رقيقًا كحدِ سيفٍ قاطع بينما ظننتُ أنّي كماءٍ زلالٍ يصبُ عبرَ حنجرةٍ تحنُ إلى العذوبة، فهذا اللطفُ الذي يتسلل مِني يجعلني متزلجًا على سطحٍ لزجٍ لا يمكنُ فيهِ التغلغل أكثر من هذه الحالة الدائمة التي تُبدع في جعلي أقلب الذكريات و أكورها فلا تعودُ إحداها مسننةً… أفتتُ الأحداثَ باللغةِ أديمًا يقرأني عند الساعةِ الخامسة والسبعين، ذلك أن كثيرًا من الوجوهُ التي نبتت كأزهارٍ في قلبي لم تعد بسحنٍ واضحة لأنها تشكلُ مديد لما يحويهِ الوجود باختلافاتهِ التي تزيده جمالاً ومن ثمّ تعمره في تكوني.


أمدُ يدي إلى الثمارِ اليانعة في صدري؛ المَحِلّة التي يقطنها ملاين الكائنات والكلمات، وأشهد امتدادي في الأرجاءِ بلاً للمدى البعيد الذي يجسُ دمي و يتزمله… أجسُ جسد ذاكرتي، وأُقبلُ ما فيها مما صار، هي الآن ذاكرة ولدت من رحمٍ بعيد لتعيش للحبِ الذي يلونُ قفزاتي بألوان الطيف التي أبثها مع الطائرات التي تذر الكلماتِ التي تعمرُ في الوجود أوطانًا شاسعة للحب.

تعليقات

  1. رائق أستاذ هيثم. مزيدا من التألق والعطاء.
    محبكم حكيم.

    ردحذف

إرسال تعليق

علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...