٢٣،
الصراع الأكثر شراسةً ليسَ صِراع العروش في المسلسلِ الشهير ذائع الصيت، وإنما صراع الفنادق ومحال القهوة الراقية في الرياضِ شَاهدةٌ على صِراع الكراسي الذي مُنيت بهِ ساحاتها والحروبُ الكلامية الطويلة ليّ مع القبقب… شرارة ذلك قديمة حينما لاحظتُ أن القبقب يُفضل خلافًا عن الكائناتِ أن لا يقابلني بالجلوس، وإنما يتخذُ المجاورةَ سبيلاً فأتضجرُ لأنيّ أحتاج إلى الالتفاتِ أو حتى للانبعاج ليتسنى ليّ رؤيتهُ ومما يغيرُ من مظهرِ اللياقةِ العام في الفنادقِ والمحال فيثير عقيرتي لأمُره للذهاب مقابلاً فيقومُ وقد جر أذيال الهزيمة، وقد فتح عينيهِ إلى الدرجةِ القصوى قائلاً: لأنّي ابن البطة السوداء! ...
و عندما نختارُ الاستقرار حينًا في أحدِ الأماكنِ، ثمّ نداوم الروحةَ والمجيء إليه تتفتحُ عيونه على المقاعدِ التي اختارها؛ فتارةً هي أكثرُ صلاحيةً للجلوسِ لأنها وارفة وأفضل من المقاعدِ الخشبيةِ التي يُمنى بِها و تهدل عامودهُ الفقري كالبوظة عندما تسيح فيحاولُ جاهدًا أن يستمسكَ بذُرى التصبّر بينما اتخذُ أنا المقاعد الكبيرة والمُريحة؛ لكن حتى عندما يتبدل الحُال أو اختارُ ضاحكًا مبادلته فإذا استقر القبقب على المقاعد الكبيرة لا تسعفه بنيتهُ الجسدية على البقاء فيشغل طيلةَ اللقاء متمسكًا بأيدي الكراسي، ويستند على الطاولات؛ ليكتشفُ أن جلوسي على المقاعدِ الصغيرة والخشبيةِ أحيانًا شكلاً ملكيًا مِن الرُقي الذي يتبعني أينما أولي وجهي قِبل الأشياء، ولأنّي الصورةُ الرقيقة للتغيّر الناعم واللطيف الذي يزرعه اليقطين في وجهِ العالمِ؛ أصبحتُ منارًا للفلسفات الوجوديةِ، وترقرقَ الشعرُ من جوانبيّ في الحكاياتِ والجمل التي أنطقُ بها؛ الأمرُ الذي يجعل هذه المقاعد الخشبية القاسية مهوى فؤادِ القبب، و مُنيةَ بقاءه، ورغبتهُ التي لا يحيد عنها، كل ذلك وهو مُتنعمٌ بالورّافة والهناءِ التي أصبح لا يطيقها وهي عليهِ فيلقع بها عنهُ بعيدًا ويقول ليّ: يبدو أن كتابتك تمضي على خيرِ ما يرام على هذهِ الطاولة الملاقية للكرسي مما يجعلك أكثرَ كتابةً مِني، وأرعى بالجملِ النبّاتةِ بالمعاني وأكثرَ صقلا! لكني أكتفي بالابتسام، ثمّ رفع يدي وخفضها مشيرًا إليه للبقاء فيما اختار!
وكثيرًا ما يشير القبقب إلي بالقولِ أنّي عميقُ الاستقرار، ولا أكاد أبارح موضعًا اخترتُ البقاء فيه وجِماع الأمر أنّي لا أحب اللعب بطاق طاق طاقية، والتدحرج بين المقاعدِ وأنا بهذه البنية السمينة فأزلزل المكان وأترك ورائي أصناف القهوة والشاي وأطايب المأكولات تتسمر أمام هذه المسرحية، وأصرف الأبصار عن الانشغال بما أتت من أجله حين يشاهدون تمارين السِيرك التي يهواها القبب و أمالئه عليها أحيانًا…إذ يبدو ليّ من البهرجةِ سبيل متعةٍ عميم.
الشيءُ العجيب أن داء المقاعدِ انتقل إلى الأسِرَّة، فعندما سافرنا مرةً برفقةِ بعض شتيلات الغابة لأحد المدن الجميلة خارج البلاد، واخترنا سُكنا ناطحةِ سحابٍ تلتفُ عليها الغيوم جهةَ اليمن وجهةَ الشمالِ تاركين الطينة التي رفلنا كثيرًا في إجارة قصيرة، صاح القبقبُ قائلاً أن فندقته لم تأتي على أتمِ وجهٍ إذ أن عاموده الفقري اللطيف لا يتلقى إلا مع ريشِ النعام المستخرج من كواكبِ الهملايا، وأنّه ما كان ليرضى بأقلَ من المفارشِ المائيةِ المتخضخضة، إذ يحدوه الشوقُ إلى ليونهِ الطين في الغابةِ، أو سماحةِ رمل الشاطئ الذي يعتريه بين الفينةِ والأخرى، والذي اتخذهُ أرضيةً لبيتهِ قرب الشاطئ، فالتفت إليه طواقمُ البرجِ يأتون إليهِ بكل سبيلٍ في الغرفِ للاضجاع فأصبح بالمحلِ في كل ردهةٍ سرير يستعد لتلقي القبب الذي لم يرضى بسرير الصالةِ الذي كان مختبأ خلف الأثاث الذي يقلب سريرًا متى ما رغب للنومِ نهارًا، أو حتى السرير الأرضي الذي جُلب في غرفةِ نوم الشتيلات، فأصبحت الرحلةُ على تتمشى على العامودِ الفقري للقبقب برفقٍ على الشواطئ، وفي المقاهي التي ترفعُ أعلامها البيضاء استسلامًا بعد انتصار السهرِ إلى الصباح للبقاء.
وبعد حين امتلكتُ العينين القادرتان على رؤيةِ جسدِ القبقب العالق في الكراسي والأسرة والأماكن؛ الذاكرة التي يتركها في المحالِ التي يعتريها و يهرق عليها ماء النسيان! ؛ واستطعت سماع صوتهِ وهو يجحظ بعينيهِ قاصدًا حينما يقول وقد وضع رجلاً على أخرى هذا مكاني بينما تعلقُ الأماكن في عينيهِ الغاضبتين، أو ممدًا رجليه ليحجب قدمي عن تنفسِ عطر العالم الفسيح، بينما أسبح في السحابِ المقابل جهةَ المقهى، ملتقطًا الكلمات التي يقرأها القبب ليّ بينما ارتشف قهوتي الجميلة!
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...