رحلت مِنْ المثلث ومن وجود الأسئلة!


24, 

ما جعلَ غطاء القنينة يُذهل أنّه نقل لوجودٍ آخر في إجازتهِ التي أتخذها لرعايةِ والده التَعِبْ، فقد أصدرت جماعةُ حمايةِ القنانيّ قرارًا بنقلهِ إلى مثلثِ الأتعاب الذي لم يعبأ بهِ أحدٌ مما ينيف عن العشر سنين! 

كانت أيامهُ تَمر وهو بجوارِ والدهِ متلهفًا لعافيتهِ، فإذا بالقرار يصّدع رأسهُ وكاد أن يقسمهُ إلى جزئين وهو في المشفى يجرُ أذيال الذاكرةِ المورقةِ بملح العيون، وهو الذي يتأمل بجسدهِ المُكوّر كيف ذبل في المرايا الموزعة بين الدهاليز والزوايا التي سيتركها ليرى مكانهُ الجديد الذي لا يعرفُ عنه شيئًا موطنًا للغُبار.

كنتُ أخوضُ غِمار مرحلةٍ جديدة بعد انطفاءِ الكهرباء التي عطلت المصاعد، فجعلت غطاء القنينة الذي وصل للتو بالكادِ يلتقط أنفاسه ليعرفَ بنفسهِ وهو الذي لا يحتاج لذلك فالكتابُ مُبين بعنوانهِ أكثر من تلك الرواية التي جعلتها على رفِ المكتب لنتسامر حين يحل الصمت على المكان، لكن الحُبّ الذي أشعل شمعةً في الغرفةِ المستطيلة التي لا تحتوي على نوافذ جعلت يقطينةً مثلي تشعل جهاز التكييف على كل الأحوالِ صيفًا أو شتاءً على الدرجة الثامنة عشر قائلاً: ما عساك أن تفعل حين تعود الكهرباء لمصافحةِ هذه الغرفةِ المصمدة سوى أن تشعل التكييف؟ 

بينما يكمل غطاءُ القنينة جمع حكاياهُ من ذاكرتهِ التي اعتادت على المكتبِ القديم، و القنينة الذهبية ذاتْ البروج؛ يحميها ويحفظها عن الرحيل الذي يحل بين الفينةِ والأخرى، وعلى وجههِ صعقة ألمت بهِ من المكانِ الجديد هذه الغرفةُ التي تختزن الكم الهائل من الغبار التي تهبهُ النوافذ بالغرفةِ المجاورة للفراغ فيحشوهُ بكلماتٍ تُبدي النزقَ من المكان.

كنت اليقطينة الوحيدة بهذا المبنى المُتهدل، بالكادِ أصل إلى أعلاه في كل صباحٍ لأحتسي شيئًا من الشاي والقهوة مع غطاء القنينة، و أرعي بسمعي إلى حكايتهِ اللطيفة، وأعدُ الكم الهائل من رؤس القناني التي يجمعها ليحصل على جائزةٍ كبرى، ليرحل بعيدًا إلى المجهول! 

وأنا أنظرُ إلى قترِ السنين على وجنتيهِ وكأنه يقولُ ليّ يا زميلي؛ إن الذاكرة شكلٌ حيٌ يسعى في نواحينا.. لا أدري أي ذاكرةٌ هذه التي تحضني على الوعيّ بأن كل ما يحيط بي مُسنن بعمق خصوصًا وأن الباب الصغير الذي يقود الداخلين إلى الغرفةِ لطالما ما ارتطمَ بالجدارِ لأنه يفتح على زاويةٍ صغيرة بالكادِ أبلغ بها الوصولُ وأنا بهذه البنية السمينة، غير أنّي لم أعد أهتم بعدما رأيتُ معاناة شجرة البلوط حين تزورنا لنحتسي بعضَ الأحاديثِ اللطيفة مع الكوكيز والشاي. 


كانت هذهِ الغرفة المُحددة بقترها، وبصرامتها الشديدة بالقطع، تريد أن تقتطع من المكان، وتغادر في الفلاةِ لتتنفس الأزهار المهملة خارج المبنى إذ نبتت من بعضِ الشقوق في البلاط بالخارج الذي يتلفت على رأس القنينة عندما تخرج لأنها الشيء الوحيد الذي ينبضُ بالحياة في اللا حياة! لطالما رسمت في بالي هذه المثلث بين جدي القديم، كيف يبدو في الجهةِ الخلفية عند حوض النخلةِ العملاقة مثلثًا ليجذب إليه السيل والمطر عندما يهبط، وكان دومًا يأخذ عبقًا من ذاكرتي متغلغلًاً في الأشجار والتشققات في المبنى، ليجعل ليّ وجهًا في كل التفاصيل، لم أعرف أن وجهي سيصل إلى رؤسِ القناني التي جمعها رأس القنينة الكبير في درجِ مكتبي الذي يحنُ لعهدهِ الأول قبل عشرِ سنين، وبتُ أنظر بعمقٍ إلى الحيواتِ التي تنسلُ من هذه المجسمات لتسكن قلب رأس القنينة الجريح، لكني رغمَ ذلك، ومع الحُبّ كتبت حكايتي التي لم يستطع رأس القنينة قرائتها، لكني رحلت بلطفٍ إلى عالمٍ آخر حيثُ لا تتشكل الحدود لتكون طنبًا أو مسنمة تريد خرق ذاكرة العالم. لم يرد لي قاطنية أن أغير مصيري المُحدد لذلك أصبحتُ الشخص الأول الذي يقرر أن يمتد بالحُبّ لقعر الكائنات والتفاصيل.

بقيّ غطاء القنينة صامدًا أشهرًا ثمّ رحل بعد أن انعجنت ذاتيّ بين الأوراق، والكائنات التي تلقي على التحية كل يومٍ ذابت ذاكرة المثلث ونمّت في جوانبها بعض القنينات ورؤسها المبتسمة في درج مكتبي الذي يتذكر اليوم الذي رحلت فيهِ لتبقى تجسداتي في الأشياء إلى الأبد! 

لكني رغم ذاك أبتعتُ ليّ وجهًا آخر، لا يرعي سمعًا للضجيج الذي ينتشر بعد إذ قررت الذاكرة أن تُحشّر الكائنات في صندوقٍ بالكادِ يتسع للكلماتِ التي ألقيها على الأوراق حين تضمّ الانتهاء أو تُفسر عن الابتداء، وبعد أن ناف وجودي عن البقاء أتى غطاء القنينة وقد اعتمر قنينته المُراقة قائلاً: لقد تركتُ المكان، بعد إذ توسدت التفاصيل قلبي فها أنا أعيش لليقطين الحكاية.


تعليقات