مرور يقضم النسيان من الوجود...

 




المرور الشنيع الذي يُمارس ليدل على الفناءِ بصورةٍ تبقيه واهنًا كبيتِ عنكبوت في الخوالد والقلوب؛ ذاك المرور الذي ينقضُ كجدارٍ من سراب، لا تعود فيه علاقات النّاس مُهمة لأنها وقتية، ومدعاة للانقطاع بأيسر السبل... بينما لا وقت إلا هذه الذاكرة التي تدور؛ وهمٌ هذا الانقضاء لتعيد ولادة المشاهد مِرارًا دون أن تختلق فهمًا جديدًا. المرور الشنيع أن تبقى الأشياء التي تدل عليك معزولةً عن العالمِ لأنّها بنيت على تركيبةِ سُحنتك في الوجود، تملكت ابتسامتك، لغتك التي تنبث من صدرك لتقارع أسماعًا وآذانا. وماذا بعد هل تمرُ سريعًا كغيمة تتمشى على الديار ثم تتمشى في نفوسٍ ذات أصقاع مُنوعة لتنتهي أو تُنهي وجودك بينما لم تتعلم المشي بعد، هذه المُعادلة الغريبة: أن تصل أطراف الكون بينما لم تبارح موضعك، حتى أحلامك تعيد لوكها مِرارًا. 

لقد مررتُ لكني لم أترك شيئًا ورائي، كانت الأمور والمخلوقات تنمو في دمي مع الكلماتِ التي سامرةً مع القهوةِ يحيكون ثيابًا من نماءِ الحياة، والتفاصيل التي تميزُ كل وجودٍ وكل إنسان، تلتحم فجوات الفراغ بذاكرةِ المرور البسيط الذي لا يترك شيئًا ورائه. عاودتُ الكرّة مضيتُ واقفًا وبلغت مناطق تحن ليّ ولم يزرها آخر عداي؛ كل مكان يبني وجودهُ خصيصًا في دواخلك، وينمو بصورةٍ تترك لها موضعًا في النفسِ لا تضاهى فيه، هكذا لا تعود المُدن كما هي في القلوبِ والمشاعر تبنيها كما يشاهد بنيانها المرصوص، لذلك لم تغب عنيّ تفاصيلِ الديار التي خرجتُ منها وبدت لي في المناحي التي أزورها ظاهرةً حتى بيت جدي في المدينةِ التي أُحبها عنيزة لم أخاله إلا قطعةً من سدير، من أشيقر، من الوشاحية، من الرياض الحلوة من قلبي الذي تصقلُ فيه الكلماتُ، ومن الطين الذي يبلُ جسديّ بالمعاني فاغرس أصابعي في رحمهِ لأمس تسلسل المارين عبر الوجودِ إلى الوجود. 

مر الليلُ، ولم نسمر بعد، غير أن الوجوه التي أحببتها تحاول الطلوع من كبدِ النجوم، من الضياءِ الذي يتفتقُ من قلبيّ ليُبلغ الأجساد الأخرى نوره؛ وأنا أغذى على الشوكولاته المُرّة، وكوب قهوتي يُنادي هل تعكس وجهك عليّ من جديد لأكسب مذاقًا فريد؟. شربةٌ تلو أخرى، القهوة تأتي عبر الأيادي الحنينة للكلامِ، لقضاءِ الليل برونقِ وهج الصباح، وبالمشاعر التي تدور ترقص وتغني عبر الأشياء الجامدة لتصبح حيةً للأبد. يبدو أن المرور أحيانًا شكلُ من الوقوفِ الذي لا ينتهي، بينما يكون الوقوف سعيًا قويًا للفكاك، هذا التغير الذي يعيد تشكيل الأشياء لتكوّن صورًا عما كانت ثم تبلغ موضعًا جديدًا عبر القلوب والنفوس... 




تعليقات