ذبلتَ يا صاحب السعادة، أصبحت شجرةً ذات خواءٍ من رحمِ الريح، تجس الصباح بجذوعٍ أخذت خضرتها الرمال إلى قعرٍ سحيق في كبدِ الفناء. مرهق أن تكون لوحةً فنية للذبول، وتشخص إليك الأبصارُ باحثةً عن النهايةِ في التفاصيلِ التي لم تعد مُهمة فهي الآن تنقضُ بنفخةٍ ضعيفة. أجمعُ كفي لبعضهما لأرى القدر الذي تنفذ مِنه شُعلة الشمعةِ الأخِذة بالذوبانِ قرب الورقةِ حيثُ تنهد في ولادةِ سيرك من الكلماتِ اللاعبة...
ذواتٌ قد جفت وحُلقت في أطرافِ المكانِ، حُليٌّ هذه الخوصُ المجمعة وقد علقت على أطرافها أجراس تتوسدُ قصيدةً آنة...أسمعُ اللغة تسحبُ تلابيب الذاكرة، وتقدُ من الثيابِ ما تكشفُ بهِ ساق النور، مُبين هذا الفراق الذي يغسلني عن سِوى الدمع. ألمسُ الجدار، أهذا قلبيّ البعيد قد جاء في الدفءِ المُشذر بالغرفةِ الباردة، ليس ثمّة شيءٌ سوى نبيضاتٍ هادئة تهذبُ الصمت الذي يسحبُ الوجوه إليهِ ليذرها للهباء المُوحش على فتاتِ ذاكرةٍ و قضمةِ رغيف. أفتتُ بعض الذكرياتِ بيديّ عبر طحنِ الأوراقِ ثمّ أذروها لطيور المعانيّ لتعود إلي وقد عادت في تركيبٍ جديد.
لماذا يصبحُ هذا الرحيل علامةً مُسجلة تعيد تدوير علاقتنا؛ لن نكون إذًا شجرةَ عنبٍ ملتفة بعد الآن، وسنصبح في مهبِ الماشين لا يدرون عن غاية؛ فيصلون أخيرًا إلى الفراغ، حيثُ لا بوصلة، لا إشارة، ولا معالم قابلة لاستدرار الذاكرة، هكذا لن ننسى ببساطةٍ لأننا لن نتذكر، يحجبني الدوران السريع عن سِواه، فلا أكادُ أحسن لوجهيّ رؤيةً في غير قلبي لغةَ هذا السعي الحثيث للبهاء! يبدو ليّ أن الأحداث أصبحت مُفرغة من الأصوات، من المعنى، من الوجودِ الذي أعرفه، وتبدو الأمور مهما أشتد جمالها لا تدلُ على شيء. يرنُ الهاتف، ويرتسمُ عليهِ رقمي بالكادِ؛ أنبهُ نفسيّ خروجًا من الانهماك.
آمر الأبواب المُوصدة أن تشرع للقادمين، للغيومِ التي تعبر على الأثاث وتتلمسُ المكان لتقر في قلبي أخيرًا...فتدب في التفاصيلِ الحركة، مرور الأحياءِ حقًا عليها، الفرحةُ التي تتسلل عبر ضحكاتِ الأطفال، وفي الحكايات الحلوة المغزولة بالنهمِ البديع للحُبّ، إنّي أفسر السحن بغير ما رأيتُ أولاً، حيث تدبُ في الذبول دفقة الزهو والوداعة، مما يُريني الربيعَ في غيرِ حينه في الألوانِ المُشبعة، وبدى ليّ الناسُ عبقًا من الريح التي تمر خفيفةً على فؤادي، وفي ذكرياتي، فأشهدُ بالكائناتِ مالم أراهُ أوّل الأمر، أغمضُ عينيّ وأدع لبصيرتي النظر؛ لتفصل بين الأشياء.
أهرعُ إلى العتمةِ، إلى دبيبِ الفِكر في خلديّ، ليخرج ضوء خافت يتسلل من طرفِ النافذة قائلاً: نحنُ هنا، ولا أزال بتحسسٍ لغوري البديع، و وجهيّ الذي يطلع مِن ضلعِ نجمةِ في الميزان...لا أحسب الزمن مارًا، فنحنُ نعيش على كراريس الماضي، وقد حسبنا أن العبق قد توقف عند لحظةٍ قد خلدت منذُ القديم في وطنِ النسيان! هل نكونُ أسرى لغمرةٍ، لسلوكٍ، ولاجتماعٍ يستجد في حياتنا ملاين غيره، ونُحس بعمق بنشوءِ غيره كثيرًا. لقد خرجت العنقاء مِن جسديّ، وتفتت الانفجارُ العظيمِ إلى أحجارٍ كريمة من الشطرنج في صدريّ، و تفجرت الأنهارُ من يديّ حُبًا يصلني للقلوبِ الهانئةِ بهذا العشق، وبيّ لغةً ومنحى ينبتُ على جناحي هذه السماء النيرة بالكلماتِ التي غُزلت في جسدي!
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...