ألغيت الرحلة يبدو أن الطائرة تنعمُ في سيرٍ إلى التجديد، أو أن الطقس لمّ أركانها في المدرج الذي تعشق، هل توجب عليّ أن أبقى مقارعًا الفراش في هذه الساعةِ المبكرة من الصباح، بينما يدبُ بضوئهِ ببساطة هوينًا حتى يعم الارجاء، أم أجر خطواتيّ في هذا المطار الذي يبدو خاليًا من الكائناتِ، بالكادِ أتمتمُ بالكلماتِ بقلمٍ يلفظ حبرهُ الأخير ..كانت المذكرة التي تُدليّ رأسها من جيبي مشرئبةٍ لهذا الرجوع الجار أذيال الذاكرة خلفه، عن القبلاتِ التي تركتها قدميّ السائرةِ في جسدِ المكانِ الذي يكادُ يضمنا أبدًا، أودع الأشياء باغماض عينيّ لتبقى عالقةً في دباديب الروح، وشعور البصيرة . أعاود الخطى إلى المنزلِ، والنوم يسابق الضوء إلى جفنيّ، تارةً يصل وأخرى يحملهُ موج الترقبِ بعيدًا عنيّ لأعدوا خلفه.
أرحتُ عن كاهلي الانتظار، وغصتُ في السريرِ وفيرًا بالدلوفِ إلى الذات؛ أتلمس قلبي من قعرهِ العميق، زائرًا الوجوه التي أحببتها متلمسًا وجناتها لتساقط ثمرًا وتسقي حضوريّ مطرًا . أرفع يديّ بحنوٍ رفيق لتتساقط منهما الكلماتُ التي تنتظر دور الكتابةِ الجديد، فأرى وجهي كيف يتغلغل في كبدِ الأرضِ مُشكلاً جسد الطين، ومشيدًا من البيوتِ والمباني وطنًا للكلماتِ التي تفيضُ بي، أقيمُ صلب المعاني و أنفثُ الألقَ حاضنًا هذه الأجسادُ التي تعتريني بالاختراق ما عسى الغيمةَ التهابط إلا بالتجاوزِ من الأشياء والكائناتِ مسحةً من عبق. تمددت رُوحيّ جاوزت الجسد الصغير، جسدي مجرةٌ هذا العالمِ المديد، أجمعُ اللغة الطالعة مِن جسديّ لألون كراسةَ السماءِ مدىً يُعرفني للجهاتِ، لستُ هذهِ الهيمنة التي تغيبُ ما عداها، وتمتصُ الحياةَ لتبقى، جذري المديد في الأرضِ يمد لها يد النورِ، مفتقًا عن راحتيهِ الشِعرَ و الأهزوجة.
أمدُ يديّ لتعبر عني القُرى و المدائن، والنفوس التي اختارت أن تذوبَ فيّ، وتفقد ما كان، لكن امتداديّ يأبى إلا أن يعلب هذه الذكرياتِ بقوالبَ ندى تحفظ عن ذاكرتيّ ما عداها...أشاهد أفواهًا تنطقُ برغباتِ التوحدِ، لكنيّ لا أسمع لها صوتًا، ولا أُرعي لها خاطرًا، أريد أن أحطم الهيمنة، أن أكون ذرةً سابحة في الهباءِ المجهول، حيثُ تتوارى هويتي في انسكابِ كيانيّ الصبِ إلى الحُبّ العميم. تستجمعُ الأفواه المحبوسة قواها لتقول ليّ: قرر واختر لنا، ها نحنُ لك، ومِنك، وإليك، لكن المواضع في قلبيّ لم تعد شاغرةً بعدُ لغير الحُبّ الذي لا يعرفُ ذاتًا يعلقُ بها، ولا وجودًا يَقِرُ ويوطن بهِ، هائمًا في دجى الوجودِ المُتغيرِ، ألمس روحيّ في المسيرِ تتشكل آنًا لأذوق العشقَ في سلوكاتٍ عدة؛ لم أعد أخطو وحسب بل أسافرُ من سويداءِ البصيرةِ ذاكرةً لا تعرفُ الحدّ.
أُقبّل يديّ، لتعود الرؤية الانهمار عليّ من كل حدبٍ وصوب، وأرى الأزهار والأشجار التي خرجت مِن رحم الجسدِ كيف تصبحُ الآن أشد شبهًا بيّ: لغةً للحزنِ الذي لم يعد موجعًا، أعلبُ الأحزانَ في سُرجٍ منيرة، تقل المدينةَ عبر السفرِ بالحكايا البديعة، وعلى قواربِ التصاهرُ اللغويّ تحط الرحالَ إلى الرمالِ، وتضمُ الشعثَ الذي ينمو فلقةً من النجومِ الوضيئة.
أجلسُ في المزرعةِ الخضراء، وأشربُ الشاي مع الكعكِ الذي ذوبت بهِ الهيمنة الهشّة أراوح بها المساء حتى يتخادرُ الكوب إلى حمرةِ القمرِ حين يعكسُ على أحداقِ عينيّ مّدة السلالة عبر الطينِ حتى يومها الأول، فلا أبارح موضعًا مِن ذاكرتيّ إلا هززتُ جذوعَ نخيلهِ وغرستُ ثمارهُ في كبدِ البسيطةِ يغذا عليها الوجودُ. أنادي القريةَ في دميّ فتنسكبُ مع الضوءِ المبينِ مِن سُرّة البابِ، لأسمع صوتيّ طِفلاً يسري في تفاصيلِ الغرفةِ، ويغيرُ المساحةَ والألوان الحية، لم يعد هذا الجسدُ إلا مفحص قطاةٍ لهذهِ الروح، لهذهِ اللغة التي تعيش وتتحوّل بيّ عبر الكلماتِ والحُبّ. أنادي اسمائي وجودًا: يا عاهل آلام العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...