القُبلة الأخيرة للبعد السحيق.

 




مضينا عبر الهباءِ دهورًا، لا نعي أنّا على صفصفِ الشعور متزلجون، نمارسُ الرحيل كما نتنفس و كأننا خُلقنا من ضَلِع الماضي...لا تؤثر بنا ذاكرة، ولا تمضي بنا المواقفُ على سكةٍ أخرى غير المُضي في اختراقِ قلوبنا بنصل الرجوع الكال، رأيتك تحمل الخنجر الصدئ، تريدُ ايداعه في قلبي الغيمة وأنّا لك هذا، ففي ما يكفي ذاكرة للعالمِ الموجوع.

هل تعود كرّة تالية بعد ما علقت بك أعمق قُبلات الوجود؟ لقد استنفذنا القُرب للحالة القصوى، ووصلنا بالمدى للمنتهى لا بيان الآن: سوى هذا السكون، الهدوء الذي يجوفُ العواصفَ في جسدهِ الرخو كما تجسد الجِرار بالطين...أجسدُ جسدي بالحُبّ الذي عرفته هازًا جذوع الكلماتِ التي تعمرُ صدري بالأحجيات الجميلة ثم أجعل منها لوحاتٍ زيتيه تُزين المكان بالمعنى دون الحدّ! 

لقد آن لقلبي المخّلف في الأماكن أن يعود وقد خُلق من جديد؛ قلتُ: ولم يعد صوتي مرتدًا لأهمس: لعله علقَ في جوفي أو نشب في طرفِ حدث يكررُ نفسه عبر ما يكون، أغمضُ جسدي عن صبابةِ الجراح إلى الأرضِ التي ولدتُ فيها، وراحت تطلعُ ضلعًا في كل أرض.

لقد ذقتُ الترياقَ أخيرًا، لمستُ الشفاءَ بيدي من أخامصِ السُم، ولم يعد للجراحِ أي نُدب! أتحسسُ تجاويفَ المسافةِ في معناي رادمًا سحنةَ الوجعِ بفيضٍ من نورٍ، وقيضٍ من شِعر!  ما أبسط الحياة، فهي بالأحوال لن تخرج عن لفظ الكلمات التي ترديك أو تُدنيك! 

ربما مضت الآن إثنا عشر ربيعًا دون أن تتفتح زهرة واحدة، لكن الكلمات التي خططت على رمال الشاطئ بقيت طويلاً تنتظر أن يحضنها الموج الذي لم يعد يجيء، أرقبُ القمر الذي أصبح قريبًا جدًا قيد أنملة يتهجأ اسمي بلطف، عاكسًا على حدباتهِ ملايين الحدقات التي ترنو إليّ من البعدِ السحيق، لكنها لا تتحسسني في الهواءِ الذي تستنشقه دومًا، ولا ترعي ليّ سمعًا إذا هببتُ مع الريح ضامًا الأشياء بقبلةٍ و قُرب...

مسحتُ الطريق بحنان، وتداعى إلي وقد عسفَ إليهِ الدروب ماذا حصل الآن تناديني وقد نسيت؟ الآن تناجيني وقد سليت؟  لم أملك إلا هذه اللغة، القُبلة تلوى الأخرى، أقتربُ أكثر من وتين، وأسبق من نفسٍ لابتعد فقد علمتُ أنّي مجرةٌ أخرى لا يعملُ فيها سوى الفؤادِ مسافةً...أدوّر الدواليب الهوائية، لتتمشى في أضلاعي الريح فوق الريح، قابضًا أثرًا من خطواتِ البُعاد، ومطرًا من الولادات يحيي القلوب العطشى للعشق. 

التصقُ بكل الأيام لأسلخها عنّي، كما أقضُ وجوه النّاس كبسكويتٍ أذيبهُ في قعرِ كوب شاي، ثم أدع نفسي في الناحيةِ التي لم أعد أريد، ولماذا أبتعد وأنا لم أعد أحزن على ما مضى، وقد عاملتُ اللطف فأصبح أعمق أثرًا بالحسمِ من سيفٍ صقيل! فما تفعلهُ القُبلة أمضى من صفعةٍ وأعمقُ في التغلغلِ من ألفِ دمعة، دون سكبٍ آخر للذاكرةِ الهاربة عبر الشقوق...شيء ما يهزُ الجذوع ذات النتوءِ فيّ، أطربُ لصوتها الذي يحملُ صوتيّ الصارخ إلى الضفةِ الأخرى من البطء، محملاً بنسيج الغيمِ والموج.

لقد قطفتُ الثمرة أخيرًا، لكني رميتُ بها إلى قعرِ الفناءِ الذي يُناديني، هل تذوقت أخيرًا التمنّع ؟ صحوتُ على صوتٍ آخر، الحياة بتفاصيلها تُعمل الضجيج في رأسي عليك أن تفكر الآن جيدًا، أين قُبلاتك من هذا التصحرِ لا تُنديه، ومن التلوثِ لا تُصفيه، يا عاهل آلام العالمين، سيعودُ السفر ليكشف عن وجدك القديم وقد تحوّل، ويهدي الثمار الطيبة في المفارقِ والمحالِ، وفي الندى يرسو في مقلتيك وفي راحتيك. لقد نهض البعادُ من جذوةِ اللهثِ للفراغ، مُجمعًا خلطته السرية للحظات التي أحب قائلاً: وقد خلق الرحيل مِنّي الآن فما يشقيني لسكة قطار! 


 


تعليقات