انتقلنا للبيت الجديد، لم يكن الأمر بسهولةِ كتابة هذه الجملة الصغيرة، فقد لمَّ بنا من مدلهماتِ الحياة، ما يجعل صورة هذا الانتقال تنزعنا بشدة من بيتنا القديم، وكأن جلودنا قد قُدت من ذلك الحي، وحول أولئك الناس، والتفاصيل. لقد أصبحت رحلةِ التنقل هذه مُحرضةً لتصفح الذكريات...والإحساس بغورها العميق، فلا أكادُ أقدم على أمرٍ من شؤون انتقالنا حتى أرى مِن الأفعالِ وأسمعُ من الأقوالِ ما ظننتُ نسيانه يتداعى في دواخلي، وينتشرُ عبر تمظهرات المادةِ حولي وتشكلها.
رحتُ متسائلاً لا أدري كم قضينا من الازمان نستعد للانتقال؟، فحساب هذه الأيام خارج معادلة التقاويم والزمن، لقد أصبح شغل العائلة الشاغل نقل العفوش المتراكمة عبر السنين، إننا مكتنزون بكم مهولٍ من ذاكرةِ الحياة والممات على حدّ سواء! فكل الاجراءات التي اتخذنها في النقل، مع الاستعانة بالسيارات المخصصة لنقل الأغراض، لم تجاوز ربع ما يجب علينا نقله كما تقول أمي؛ ربما هذهِ ضريبة التوحدّ مع الأشياءِ، لقد أصبح بيتنا بعد سكنى عشرين عامًا ناطقًا بلسانِ حالنا، ويتخذ من التحولاتِ التي طرأت عليهِ والتحسينات أداة افصاحٍ تُحدث الآخرين عنا وقد كاد أن يكون صورتنا الوجودية إلا أننا قررنا الانفضاض عنه أخيرًا.
قررنا على مضض، أن نسكن في البيت الجديد، واستمرت خطة نقل العفش شهورًا تعدل الدهور دون أن نصل للحدّ الذي يسمح لنا بالاتساق مع نُبل الاحتفاظ بالكنوز القديمة، عليّ أن أحضن كل كتابٍ على حدى، و أنتخب الأشياء التي أنقلها معي...ومن ثمّ أخذ وجهي المُعلق بالمرايا، و على جدران البيتِ، وفي الصدى الذي يرد صوت المتحدثين؛ إلى الامتدادِ الوجودي من جهةِ الغربِ إلى جهةِ الشمال، ومن جهة الجنوب إلى جهة الشرق...متوحدًا بالرياضِ الحلوة، ملمومًا في شذى أطرافها، وفي طرقها العذبة، ومبانيها الباذخة.
يبدو ليّ أن ذكرياتنا تتأكسد مع عامل اختفائنا في البيت القديم، وتتحوّل في المنزل الجديد، عِندما أنظر وجهي في المرآة، أرى الغائب فيهِ يتمشى بجور مدرستي المتوسطة التي سويت بالأرض قريبًا، ويذهب للبقالةِ التي تغلقُ أبوابها وقت خروج الطلاب من المدرسة، تاركةً نافذة صغيرة تتلقى منها الطلبات الممهورةِ بالفلوس! أريد أن أطلب أيضًا من الطرقات أن تقدّ شيئًا مِنها فرحلة الستين كيلو مترًا اليومية تجعلني أعيش قدرًا كبيرًا من يومي بالسيارة! مازال بيتنا الجديد يحاول جاهدًا أن يصوغ من وجهي أداةً لتدل عليهِ، ومن قلبي بوصلةً تحددُ ريعان حُبهِ بالمدينةِ ومن ثمّ العالم، إلا أن تنقلي إلى حينا الأول ينعشُ حضور البيت القديمِ، كما أن ميلي على أجسادِ الطرقِ في النهارِ حتى بلوغ الليل مستقر الهدوء يجعلني مسيسًا بكل ما علق بي من اليومِ الذي لا يغادرُ إلا من نافذةِ التقويم المطوية لليوم الجديد.
لم يمر انتقالنا دون طارئ، ففي الحي الجديد، ينتشر البعوض اللساع ذي القوى الخارقة، حيثُ يترك آثار لسعاته أسابيعًا طويلة على جلودنا مع حكةٍ لا تُغيبه عن أحاديثنا و اتخاذنا المعارك الضارية للقضاء عليهِ، ما دعى الجهات المسؤولية لرش الحي بالمبيدِ الحشري الخاص فجر كل يوم، علها تقضي على بعضِ هذا البعوض الشرس، لينتشرَ المبيدُ لسقفِ السماء عابرًا فوق المنازلِ إلى مستقرٍ بعيد حيث قيامة البعوض. هذا البعوض الذي يريد نقل حكته لتصير سُلوكًا يذكرنا كم كان البيت الأول جميلاً، ويبذر في مشاعرنا الحنين لكل ما نعمنا به من حبٍ وهناء مُدت من البيتِ القديم للبيتِ الجديد، يجعلني اتصفح قلبيّ مرارًا واستعذب الكلمات الجميلة التي ولدت في دارنا الزاكية بنفوسٍ قد تركت لها آثارًا فيهِ ومعان مديدة بالحسنِ في نفوس أصحابه.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...