نشوةُ التكسر في رحى الريح.

 






النشوةُ التي تعتريني اثر هبوط الليل للكتابة تعزلني عن الكون المحسوس، تأخذ بتلابيبي على حين غرةٍ إلى الما وراء ؛ فتسحقُ ارتباطات الأشياء، ويغيب النّاس في لجة الفناء فلا يبقى في عالم الاحياء سواي.  احتسي مراراتي، وقد ذاب في كُوبي انعكاسُ مهجتي، وبعض الشهب التي لم تعد تضيء، عابرًا تدفقاتي في الفجواتِ المظلمة، حيثُ لا تدري الكائناتُ التي تعيش على حضوري الخافت العميق.  تقضمني الاندهاشات الرديئة الساعة، غير أنّي أخذُ بالسكونِ مستمسكًا بالعروةِ الوثقى للفناء، قابضًا على السكوت الذي يرغبُ بالسفر للأفواهِ الأخرى، وفي أُذنّي مسحةٌ من كلام الأمسِ يقضمهُ مضي الأيام.


هذهِ يدي المحوّلة في آنها كوكبًا تنطفئ شيئًا وتضيءُ شيئًا ولكنها الآن عندما أحاول لمسها تكون سرابًا لا أصلُ إليه، ويبعدُ أن أرى نفسي عبر المرايا المكلومةِ بي.  فقدتُ نفسي، أسبابي الأولية للتريثِ حتى انسحاب الوجود من المناطقِ التي بقيتُ فيها وقد صرتُ في الجهاتِ أتناولُ حطامي المنسي على مائدةِ الركامِ المكلوم. مرارةٌ أن أؤخذ على حين غرةٍ ملمومًا في المعنى الذي ينسابُ في الكلماتِ ليفتشَ في جسدهِ عن الريح. لا أغضب مِني اللحظة، فمن هذا الجسد كانت معاناةُ الخروج والآن بذرةُ التحولات غدّت في لحاظ شجرة مُعمرة! 


نسيانٌ البقاء، وقد قُدّت ذاكرتي مِن فراغ، نسيانٌ إن رحلت؛ وبين هذا وذاك يغيبُ حدّ الزمن، وتُقلّب الاسئلة الأولى لتلقى أجوبةً جديدة! غير أنّي لا أزحزح الردهة التي تنسحب كما الرمل يبحث عن بوصلة، وما زلتُ أقلب بصري بين الأرضِ والسماءِ مُحيرًا بين لغةُ الأمس تتدفق مِن فمي، ومِن لغة اليوم تتضحضح في دمي الكتَّاب.  


ألمسُ الرمال التي ملئت غرفة نومي على نحو مطرد فأصبحتُ على كُثيِّب رمل أمد يدي إلياه وتنساب آلاف حبيبات الرمل الذي كان من لحظات عالمًا وأناسًا وذكريات والآن ذرات تستعد للضياع في الهباء، أو الاختباء على الأقل تحت الكلمات التي أكتبها ؛ تبدو كتابتي أحيانًا شهباء، مُغبرة ، ذات خواءٍ يعبرُ مِنه الهواء، وما أن تتمكن حتى تستقر ويكون لها ثقلٌ مضاعف يدمر الأشياء ويمحق الحدود ويجعل صيغةً جديدة للتعاطي ولغة تحوي هذه التحولات.


 حتى أنا بدأتُ أفقد ماهيتي بشكلٍ حثيث لأكون كائنًا قد وعى الجهات كُلها ولم يعد قادرًا على وعي جسدهِ في الحدود والمرايا. أنظرُ جسدي هذا السراب الذي يهشمني، كيف إذا ذهبتُ لأحضن جسدي؛ أجسُ ذاكرةً لا أعرفها... ! 


 أفقد هويتي، اسمي، مكنوني لكن يدي مع ذاك لا تفتأ عن الكتابة ولا قلبي إذ تبعدُ الهوة بين زمني وجسدي فأغدو طفلاً وقد بلغ عُمري ملايين السنين الضوئية لم أرى في الوجود طفلاً أصغر مِني ولم أجد كائنًا أكبر مِني في آن يشطرني عبر مدلهماته بالأحزان فلا تكادُ المدينة تفتأ عن البكاء لتواسيني. بكاءٌ صوتي الذي يدكُ خاصرتي بمعولهِ قصيدةً، و ينثرني على سُجادة الريح، أسافرُ للهباء الضياع.


بيد أن الانتظار الذي اقترفته لم يعد لي الفجوات التي غادرتني، وأراني مقضمًا من النواحي التي أحببتها فيّ لاتصل بمكنونات ذات بعد غائر سحيق،  ولتعمق جسدي في هبوطه للعالم السُفلي أضحى ريشةً في مهب الهباءات عباءة للريح يسافر معها ويحط الرحال مع ما ألقاه من تدفق الكائنات حولي كما الجدول حيث تختلط الحياة بالممات سيلاً يجرفُ الكثير، بقي لي اللغةُ وإحساسي البعيد بالجُمل المرونقة وقد سال الحب عبر الشقوق واستقر في الفجوات واسن ينتظرُ التبخر شيئًا فشيئًا جزءٌ يفقد في التفاصيل التي يلتصق بها؛ ويتحوّل عبر التمظهرات حتى لا يرى ولا يُعرف. 


أمر قرب أشد الأشياء التي أحببتها والكائنات ولا يدرون من أنا فقط عيني باتت تفحص الفراغ، والعتمة المتسلسلة في صدري لا يضيئها سراجٌ وهاج غير أن اللغة التي تتدفق داخل أعضائي خلاصي الوحيد، متمشيًا داخلي عابرًا الأهوال البشرية بالبصيرة بمحض. لم تعد عينيّ بقدرةٍ كافية لترا عبر النور؛ قليلٌ مِنهُ يكفي وزيادة، أنا من قلتُ أن الحب وحده يكفي للبقاءِ، وكان هذا الشعور الذي يمضيني كوقت منقض، وكحياة تستعجل النهاية في بدايتها، بينما يعيشُ وجهي متغذيًا على اللحظة الأولى التي أحببتُ فيها لأكون الحب، وجاوزتُ الحدّ والجسد ليكون لقائي بالأشياء والحس بها عبر الفراغية والتمظهرات اللغوية مشتاقًا للعُري المجازي في اللغة، وللأدب المكلوم الذي يتفجرُ من جسدي عابرًا الوجود والعالم.  توقفتُ عن تقبيل شفتيّ الزمن لأدور تروسه قليلاً، لأنتهي من شبق البدايات الذي استمر سنينًا تكفي للموت والنهاية، و لأتذوق طعم لغتي. 


أتناول البوضة لأكسر صخور القسوة، ليكون العالم طقسًا مُناسبًا لأعيش فيه فالصقيع هو اللباس الذي يليقُ بي فعلاً إنّي جسدٌ لا تشعله الا البرودة القارصة، وقد خلعتُ عباءة جسدي، وارتديتُ مسحة من قلقي و وجعي. مضى زمنّي حبيسًا في أدراج ذاكرتي، ملمومًا في صوتِ الريّح الذي يحطمني، فأولدُ من الطينِ مقدودًا بصوتي الذي يكتبني.  


ذقتُ فنائي في خلودِ كتابتي، وفي رحيل العيون التي أشتهي رؤيتها لكنها وهبتني ليلاً طويلاً أغمض فيّ الشعور، وهبّ في الفتور؛ أن أرى ولا أرى فيما أرى شيئًا، وأن أمس سرابي وأتذوق رؤياي ووحدتي وانسكاب حزني وموضعي من الأشياء ؛ قريبًا قيد أنملة، بعيدًا قدر تاريخ سحيق، وفي لعبة البقاء الفناء كنتُ قاب القوسين حبيسًا يختلط في أمري الشيئين والآن أنطقها: يا عاهل آلام العالمين عُري أن تنسى، عُريٌّ أن تبقى؛ وفي لغةٍ قد نبتت مِن قلبك الاسئلة أشرعة بقاءٍ في القلوب التي أحببتها لتبقى، وفي القلوب التي أوجعتها لتلقى وجهك الطفل، وصوتك الريح تسافر لمستقر الذاكرة والتباريح.  



تعليقات