عجينةُ الظلمةِ التي تدكُ صدري، وتعمرُ لغتي.

 





 

في ظلمة قد دمست صدري، وأثخنت ذاكرتي بقطران المأساة؛ أشعلت شمعة صغيرة، بصيص شعور وقرب قد دنى مِنيّ وهو مِني، وأصبحت متسائلاً كيف ينتمي ليّ وهو مِني وليس مِني في آن معًا.  أحجمُ عن استقرار النظر للغير لئلا أضيع البوصلةَ التي تقربني، وتكشف منزلي بين منازل البرايا، وحتى لا أحمَّل قلبًا آخر في حقيبتي، وبين أوراقي، وفي حياتي.

 

قبضتُ على الريح المسافرةِ في دمي؛ تُمطر بالكلماتِ على البيدِ المقفرة، غريبًا وقد صيّر جسدي بعضًا من الرمل، جافًا بالكادِ تحمله ذكرياته على المشي، ممعنًا في فنائي ونهاياتي افتشُ عن البصيص ولمّا أجد.  واذا ما بسطتُ يدي أرى طيور السفر وقد عادت، تطلبُ مِني قُبلة جديدة لأبقيها تتقلبُ على الجذوةِ وعلى الصبوةِ إليّ. 

 

أغمسُ يدي في دجى الحرقةِ المتسعرةِ في جسدي، تنهشُ أعضائي لتأن وتلد الكلمات المسك، فاخرٌ أن أكون الأجمل بالمأساةِ، وأعبّر مِن الحرقةِ لغمرةِ الصمتِ اللذيذة وقد وجدتُ في عينيّ المعنى الدفاق، يحمل لغتهِ على نعش الموتِ ليبقى، ويمشي على خيط رفيع بين برزخ المعنى ليعلى، ويتنفس عشقه ليبتعد جدًا عما أحبه؛ ليتلمس القرب اللصيقَ مِن برجه السماوي، مختنقًا عن الحياة، باقيا لا يذروه عن البرد إلا قليلاً من الوجوه التي أطبقت على صدره أوّل الأمر، والآن ينهشها النسيانُ لتغدو سحنًا مخرقة، وفجواتها تخترقُ الزمان والمكان؛ تسافرُ لمستقرٍ آخر، بالكادِ أعرفُ صوتي وقد أُخذ في غمرة التحولات.

 

أمسُ جسدي الجليدي و تتيبس يدي وقد وعيتُ فيهِ سنينًا ضوئيةً مِن النعيم والربيع؛ هل استقر ربيعي في علياءه مسافرًا تحملهُ الريح… مُشعلاً سُرج ذاكرتي التي نخرها النسيانُ وما أبقى فيها إلا لممًا يبقيني بين المنزلتين وضّاحًا وعمارًا، وأنا أشهدُ يديّ التي دُكت من أخامصها وتذرى في الأيامِ دون عزاءٍ أو مواساة، أعرفُ كيف أعمل الرحيَّل في بقاءي والوصل في غيبتي واندثاري؛ إن البعد والقرب لعبةُ هذا الصبر المقيت! ها هو النسيانُ وقد انبجس عن روحي، وأسفر عني من نواحٍ لا عد لها ليكشف عن حيرتي، ويعب مأساتي ولمّا يقدرُ  بعد. 

 

قد جاء الروّاح في الظلمةِ، يطوف بيّ على وجوهي الغافية؛ أنظرُ فيها تحولاتي، وأمعنُ فيها بتصوراتي عن الوجود الذي يسكنني، غامسًا يدي في بحر الظلمةِ، أريد ليدي أن تعود لمنبتها المضيء، لكني لا أغمسُ يدي إلا في عجينةٍ تبكي تارة، وتضحك أخرى، وخلف هذا حزنٌ وفرح، ولا أدري أيهما الذي يسري في لغتي ويكشفُ عن جسدي، و يتلبس جدار الذاكرة ليهدهُ مرّةً ويقيمهُ مرّة؛ فأصبح ذا معنىً مُلبس بالفصول والأحوال كلها؛ طفقتُ أخصف مِن لباسي لأكشف عن العُري، وأخسفُ مِن كلامي لأهب نفسي القصيدة، وتهبني دورانًا طويلاً للروحِ؛ بالصمتِ والكلام بعد إذ تحوّلا عملةً واحدة، وجسدًا لمّ القض والقضيض.   أغوضُ في ملكوتِ يدي، ولا أجدُ رهبتي الطفلَ من السفر، ولا اغراقي الجرحَ في المطر، وافتح عينيّ حتى يسقط مِنيّ كل همٍ واهتمامٍ 

 

 أُلوح أمام المرآة، أحيي وجهي الذي صمد والذي أحب، وتعود لي المرايا مُلبياتٍ في محرابي؛ لأذوق غسقًا من القُبلات يبعدني عما لمستُ وعرفتُ جميلٌ أن أكون طفلاً وأن أغدى على الجهلِ، لأعب كلماتٍ جديدة، وأتهجأُ جرحي الذي يريدُ البقاءَ فيّ وفي الأشياءِ والكائناتِ الأخرى حولي يريدُ أن يصطبغ بكل شيء، ويحوّل الرؤيةَ إليهِ جاهدًا وأنا الذي أمعنُ فيهِ النظر لأجاوز حدّه، وأدنو إليهِ ليخفتَ كنغمةٍ موسيقية بالكاد أسمعها ومع ذا أعشقها.   تلوح المرايا لهذا الجسد لتسكنهُ؛ لكن السراب لا يوعبُ ولا يحسب، لماذا نعودُ وقد بقينا في مفحص قطاةٍ ننتظرُ  النهايةَ، ونودع هذه الذاكرةَ المقيتة! 

 

 انهمر صبًا للتفاصيلِ لأئدها فتصبح أخلاطاً في التراب، وقد دنت مِني الأرض هامسةً، هذا اسمك الذي حوّل وجهك، وجعل من جسدك غيمةَ البسيطة، يا جسدَ المعاناة قد حان قطافك اليوم هذهِ ثمارك قد تدلت ودنت وانتظمت في سياق جسمك الكوكبُ الدري، ووجهك الكوكبُ اللغوي؛ ونفسك الشتيتة قد التحمت وقوت وغدت للهناء مُستقر ومعين فهبط في ينبوعك العاري تكشفُ عن ذاكرة تتساقط، ولغة تتوالد من رحى يديك الكتَّابة يا عاهل آلام العالمين.  هذهِ أخلاطُ الأمس تعمرُ كأسك فاشرب وجوهك الأولى تولد وجوهك الأخرى التي تجد يا قديس الهوى المُبين، ارفع جرحك مطرًا وأمضي لِمن أحببت يذوق شذاك في البعدِ الأقسى.

 

 هززتُ بجذع الذاكرة ولم تساقط عليّ إلا دموع عيني و الصخور المجمعة فيهما قد سافرت أبدًا؛ أن أكون من وحنةِ الرمل وفي قبض الهناء رحالٌ غريب لا يألو على شيء، ولا يتزود بشيء غير قلبهِ الذي ينبضُ في صدرهِ بالكلماتِ والشعور ممعنًا في التكشفُ الذي يخلطني بالريح فنغدو كيانًا وكائنًا قد عُجن من الأعاجيب والدموع؛ يا عاهل آلام العالمين وطنٌ من فراغ قد بان في عينيك فانظر بهما لأي عين تكشفُ لك أحوالها وأجسادها وتنشطرُ بين زخك تجمع النور .  نَدَّاءٌ إن صمتُ وإن نطقتُ فهذا حبي المشرع نعمة الوجودِ وهديته. 

           

تعليقات