لا تبارح صوتي في الظلامِ وفي الكلامِ.

  

 


 

 

أسترقُ السمعَ في العَتْمة، عليّ أن أصلَ بالتمشي في ردهةِ الغيابِ للقاء يهزُ أغصانَ الشوقِ في قلبي، لأذوق ترحل الوردِ في الربيع، وأشم عطر الكلماتِ التي تُسافر بيّ حول الوجود الجديد...أتوهُ في البحثِ عنّي مليًا، وأنسّى مشي الهوينا في دمي لأجل ماذا؟ لألمس قُعر صباباتيّ المنهمرة؟، لكن أذناي لا تستمعانِ إلا لصمتٍ مطبق يكادُ يفت عضدي، ثم أعودُ لاسترق السمعَ لصوتي علّه يعودُ لكنه يأبى.

 

أُعلّب الصمتَ، أجمَّعُ الفراغ في العليَّة الصارخة، حتى لا يعود النصلُ الذي جرَّح يديّ فتدفقت بمعنّى حزيــن. أعودُ من العمقِ والقعرِ البعيدِ لأرى الأرض بوجهٍ آخر، وقد طردتُ عنّي عباءة تغلغي، والكائناتُ المعلقة بردائي تعود أدراجها للبعدِ وتناديني، يا عاهل آلام العالمين تمخض عن تجربةٍ أُخرى فتعال نهديك الكلماتِ الأخرى اللطيفة.

 

أنظرُ كتفي وهي تلدُ أجنحةً جديدة، وتكتبُ تاريخًا طيَّارًا بالعذاباتِ التي تصهرُ قلبي بقلوبٍ وأجرامٍ منوّعة؛ لاختلط بالجديد والقديم في آنٍ معًا وأكون كائنًا أسطوريًا غريبًا لم يدون تاريخهُ بعد وفي جسدهِ تذوبُ التواريخ، وأحوّل عينّي أن تعود لرؤيةِ داخلي ولجامها الكلماتُ الولودة.  أغرب عن وجهي يا متكأ السلوى، غادر  هذهِ الفلاة، وأذهب للرملِ يأخذُ ما قد سلف، تصابُ ذاكرتي بعواملِ التعرية إذ يقضمها الرملُ شيئًا فشيئًا فأغيبَ في الخروجات والولادات متشكلاً جديدًا يعبُ صوتي الأوّل. ألبس صوتي بعض الهدومِ وأبلهُ بودقِ الصدى المليح؛ ليكون مشكاةً كتَّابة

 

أخرجُ عيني من عتمتهما، واغسلهما بماءٍ قد قُيض بالذكرياتِ، أغمسُ وجهي في المياهِ ليتدفقَ من اليبوسة؛ ولترى المياهُ بعيني قلبي الوجوهَ المخرقة أثر تحولها لسمّة أقلامٍ تهطلُ بالكلماتِ الهيماء… أُبهمُ وجعي عبر مدلهماتِ الكلماتِ ودروبها، وأقطعُ الأيام بغفوةٍ تُبعد بيّ عن الوقتِ الحالي، للوقتِ الممرمر، حتى يأب صوتّي من البعدِ، وقد خالطهُ الغيم والمطر وشذرُ ذكرياتٍ وحُبّ منتظر...

 

يهشُ صوتي ويبش، يرحب بالتحولات العاملة في جسدي وكلماتي، محمولاً على ريح الجُمل المتدفقةِ؛ أنّ تُقد وتصبحَ عامل تعريةٍ في آنٍ معًا. أحطمُ القالبَ، أذوقُ بهجةَ كبدي، الثقبُ الأسودُ للمعاناةِ أضحى اليوم يتمشى بالمدينةِ يقابل النّاس، ويلعبُ مع الأطفالِ، ويأكلُ المثلجات، ويكتبُ بحبرِ الصبر والتؤدة. 

 

  أقفُ أمام المرآةِ مُرحبًا بالوجوهِ الجاريةِ في دمي، وبالحلوى المنوّعة في ذاكرتي،  وبالصحبِ المتناثرين في لُغتي، وفي الغسقِ المدفونِ في قهوتي، وفي رئتي... أمدُ يدي لعقاربِ الساعةِ القوية وأقهرها حتى تكادُ تقطعُ أصابع يديّ لكنّها تأبى جريانِ يدي الذي يحطمها ويعودُ بها بعيدًا في الماضي البعيد، ماضٍ يكتبهُ جسدي، ويتلوهُ صوتي؛ دون زمانٍ أو مكان...لقد وجدتُ حلقي أخيرًا يغتسلُ بالرملِ، يهبهُ بعض الطراوةِ ويجتزُ  مِنه اليبوسة وتتفتت بين يدي الكلماتُ التي تتحوّل رملاً كما يغدو جسدي صحراءً ووهمًا وامتدادًا وشعرًا . 

 

أتجرعُ ماءً مخلوطًا بمُرّة حتى أتجاوز التهابَ لثتي، يزدادُ الماء قسوةً في كل يومٍ أكثر، يصبح أعمقَ مرارةً، وذا غورٍ سحيقٍ في بعدهِ؛ أغمس جسدي في الماءِ المحقونِ بالمُرة، تذوقُ بشرتي معناها في الماءِ لتكتبه تارةً وتجاوزه في الأخرى؛ لأتقلب على جمر التذكر والنسيان؛ يؤلمني هذا الجمرُ  الصغير  ولا تؤلمني موجة غضبي العلوية وسيلان الحمم البركانيةِ التي تُحرك شهيتي للكتابةِ؛ وأن أصاب بالتخمّةِ المستطابة ؛ مليئًا بثمار المعنى اللذيدة، وقد استقرت الصحراءُ غابةً غناء ذات أوكل وبهجة وهناء.

 

  كتب جرحي في اشلائهِ الترياقَ والمطر، ومضى في طرقِ المعنّى من صخورِ القلوبِ التي أرادَ لكنها لا تستجيبُ إلا اذا ما حطّم كينونتها ليتفتق منها الماءُ والضوء، والصمتُ والكلام، عجيبُ إن عرفتني بين البرايا وحيدًا وأنا شديدُ القربِ، ودافئًا وفي صدري تستقرُ  الأقطاب الجليدية. 

 

دفقت يديّ حِبرها المخلوط بصوتي، ملئت غُرفتي بالكلماتِ، بالكادّ أتنفسُ حتى لا يدلف في خاطري كلامٌ قد قلتهُ سالفَ العهدِ، لأنّي لا أعيد صوتي من جديد، هذهِ الولادةُ المتدفقة تأخذُ في رحمها المكان والزمان فيغدوان في تمظهرٍ جديد، لا يستقيمُ بقاءً بالصمتِ؛ انه عصر الكلام والثرثرة، عصرُ الشعرِ و المرمرة. أقلبُ يدي لأكتب بهما ظاهرًا وباطنًا و اصهرهما قائمًا وقاعدًا، وفيّ تتقلبُ الكلمات المنورة تارةً والمعتمة أخرى لتكون جسدي الآخر. 

 

حبري صوتي المموجُ بذاكرةِ الحزن والفرح، المعجونُ بصيرورةِ قراري؛ أن أرحل في البقاءِ وأبقى في الرحيل؛ وأن أقترب لحبلِ الوتين لكنّي لا أوعى ولا أُمَسّ.  أغمضُ عينيّ لأسمع صوتهما يجري في دمي بالرؤى، أجسادٌ كثيرة اختارت العُري الخالص وهي ترتدي أغلى الثيابِ؛ أن تبوح بما يعتلجُ للأماكن والملابس والمقتنيات والنّاس الذين يغادرون سريعًا وتبقى أحضانهم بعيدًا في الزمان...أضمُ الزمان المورد في اغترابي فيؤبَ ليّ ممطرًا بحب بديعٍ وقبلاتٍ تهبني منتهى القرب.

 

حطم صوتي يبوسه، وهبني رفقًا وجعلني اترقرق نبعًا ونهرًا وانبعاثًا من حدّب لغوي فريد ؛ اغتسلُ بماءِ الحقيقةِ والسراب يأخذُ جسدي شطيرًا بين الحالين، و منثورًا بين الواقعين، اعجنُ طينةَ الذكرياتِ؛ ألوكُ بعضَ السحن المغبرة اخلطها بطينةِ معنايّ لتستقيمِ بواقعٍ وحال جديد…لقد أصبح صوتي ورقةَ شجرٍ تذوي في مهبِ الريح، تبحث عن صيرورةِ قلقي الضائعة

 

ابتعد صوتي عنّي هاجر عبر ضفافِ الذاكرةِ أصبح قواربًا تقل الراحلين من قلبي، وآنا لهم الشتاتُ والبرد، وإذا ما حاولتُ التحدث يأتي صوتي من بعدٍ سحيق، أغرفُ صوتي لأدلي بكلماتي كمن يسحب دلوء ماءٍ من البعد، يجر الكلمات لمستقر النهر الجاري في قلبي…أنظرُ  إلى جسدي إلى كل عضوٍ كيف يصبح جسدًا ويصبح صوتًا آخر تنتمي له الأشياءُ والكائنات...

 

تهشم صوتي، غُيّرت هويتهُ بتداعي ضربات الفراق، واجتزاز الصباباتِ الحرقة من الوتين لمنتهى الذكريات، والبابُ البعيدِ في بيتنا المهجور يُناديني، والقريةُ البعيدةُ في دمي تناديني لأشطر بين المفرقين بعضٌ للنسيانِ وبعضٌ للحضور الأبد. 

 

صهرتُ ذاكرتي باللغةِ تنصبُ من فؤادي لتتلمس سُحن المدينة، وجهي الضائع عاد مرّة جديدة شمسًا وقمرًا وحُبا وامتدادات جديدة، أنظرُ دمي وأتغلغلُ في صبابتهِ، وقد طلعت منه السُحن ثمارًا وأشجارًا و مدنًا كلٌ بقدرهِ و وجوده.

 

 يا عاهل آلام الصمتِ الهابطِ في ينبوعِ العُري؛ اخترت مستحثة اللغةِ لتبقى معلقًا في رحمِ الأبد؛ فهل تُقرأ اليومِ كما تقرأ في الأمسِ؟  هذهِ شمسُ انبعاثاتي وقد خفتت وحلّ ليلٌ طويل قد عمر جسدي الأوّل منورًا بالصبابةِ المخزونةِ وقد شب عن طوقِ الكلماتِ الرضية للكلماتِ البُعد الساحب تغذا على كل كلامٍ لتقولهُ وقد صار أرقى وأحلى وأسمى، يا منتهى الشوقِ للقاء قبل أجسادك الأخرى تعودُ في حلةٍ أبهى كلامًا لا تغرفُ الصمت إلا من الكلماتِ المكتوبة، وفي صحائفِ صدرك يأتي الوجود الآخر. 

 

يا عاهل آلام العالمين أُكتب نهاياتِ الوداع بحبر الدموع، ودع جرحك وغادر من محطةِ اللقاء لمحطةِ الفناء؛ حيث تبقى كلماتك وتصبح الجسد، ويفنى حضورك ويصبح السماء الماطرة بالذكريات وبالحُبّ، يلقونك مرّة لتبقى، وينتظرونك دهرًا لتُجلى في الوجود بصورٍ كثيرة، هذهِ كتفي وقد عادا إلى حالهما الأول يا بديع المُعاناةِ قد قلبت حياتك وخرجت لك حياةٌ أخرى بوجه وجسد جديد. صوتي المنتظرُ  قد كتب اليوم فلم ينصرم أبدًا ولا الوقتُ غادر؛ جالسًا للأحداثِ يحتسيها قهوةً وتحتسيهِ لغةً ومعانٍ جلية جليلة.   يا وطن الانهماراتِ العليا يا عاهل آلام العالمين

تعليقات