ينسابُ الضوء من جسدي، جسدي بوابهُ عبورِ الفناء، أدمدمُ بلقاءٍ مؤجل، أحتسي النهايات المُعلبة وعلى طاولة المقهى ألقى معنايّ القديم يسترق النظر إليّ يبحث عن نافذةٍ ليعود لي؛ وأنا له ذاك!
بالكاد أحمل صدري الذي حوى امتدادات غائرة، وشمل وطنًا للجراحاتِ، ما أحلى بقائي فردًا مُفردًا؛ لا يألو إلا على كتابةٍ وضحاء جميلة …
أصبحت لقاءاتنا ذات بعدٍ جديد؛ حمّالةُ النسيانِ والذاكرة؛ لا يعرفُ الزمن له بدٌ من الانصراف، ولا محالٌ يعمل بها يديهِ و معاوله ؛ تعال يا زمنّي أعجن جسدي الجديد ليخرج مِن رحم الصمت والكلام.
حبيبتي أين رحيلكِ الطويل، فقد فقدتُ يديّ في وطني تكتب الحُب، هلمي دائرةً إليّ في فُلك تسبحين، وتشربين دوامة حزني وعواصف قلقي.
أُقبل على شغفي بحاثًا عن حكايةٍ أخرى، لأعيد صياغةَ وجودي بجراحٍ طرية، وصراعٍ طويل جميل… حتى يتحد قلبي وعقلي ويصبحان جسدًا ومعنىً ولغة.
أشربُ السحن التي غادرت وجوه أصحابها لممًا لتصبح ليّ آلافُ الرؤى والكلمات الجديدة، وأعرف أوّل صدري من آخره.
أصهر ثقوب المعاناة السوداء وقد أخرجتها من جسدي المهجور؛ الآن أعودُ وقد استقرت أفئدتي الحية، وألملمُ جسمي المقدود بالأحلام، هوينًا بين الفراغ والوجود، أعبر البرزخ نطاقًا للصحائف تكتبُ ما آمر.
أنفخ الكلماتَ لترتدي أجنحتها وتطير في الهواء بعيدًا ؛ أودع روحي التي شطرتها يداي بيدي الكتّابة، تاركًا الزمان الذي جرى في مستقر قلقي زوادةً للقاء الغيب الذي أجهلهُ.
لم يوقضني أنّي سعيتُ بقدمي لأشعلَ سُرج الذاكرةِ المطفأة؛ وأنفخ رماد النسيانِ المخيم على جسدي، مكتفيًا بالعري الخالص؛ وقد طلعت من ضلوعي الكائناتُ التي ترتوي كلماتي لكنّي أعذبها بالإحجام عن الكتابة التي ترويها، فتصبح بذلك في يبوسٍ وانتهاءٍ يذروها محورُ الوهم الذي تعتريهِ، وحرنٌ قد فنى كنتُ أشتهيه ؛ أن تؤتى مِن أشد الأشياءِ التي أبغيها وأنفيها عنّي!
ما أكتبُ؟ وقد اتسع جسدي وجاوز المجرة، حتى أصبح إمساكي بالقلمِ هزة وجودية، وموجة علوية؛ لا تبقي ولا تذر.
على قلبي تفتقُ شغف آخر، يلم الجسد، ويعملُ قدًا بالذاكرة؛ لا أكادُ أميزُ بين الفرحةِ الضياء والحزنُ البكاء فبينهما خطٌ رفيعٌ لا يُرى بالعيون.
أضمُ ضعفي، أزمُ انتهائاتي بحدّ الشعور، وألقاني قطعة فنية نادرة ومجمدة في شتاءٍ طويل.
أنظر أشلاء وجهي، وقد تفتق من شتاتها الضوءُ وامتدَ ، يدي رحمُ التاريخ الذي أخطهُ ويكتبني…
لماذا أنسى وقد غذت عينيّ العميقتان على خُبز الذاكرة، فأصبحت تنظرُ الباطن في الظاهرِ آنًا ؛ هل أنسى انسكاب جرحي مطرًا بعد إذ استقامت إلي الأشجارُ بالثمار ؟
أُقبل جسد المعاناة فتنبثقُ عن جدولِ نورٍ دُريّ؛ يقلبُ وجهي في صحافهِ وجريانهِ على الجادة، أشربُ منه قطرةً بحجم البحار، فلا تروي ضمئي للكتابة ولا للحب …
هذهِ كبدي قداحةُ الأيام التي تذوي وتنتهي دون أن تودعني؛ مالي قد هجرتُ ذاكرة أوجعتني ولمّا أكتبها بعد. يسحقُ الكائنات غفلتي عنها، ممارسة الحياة دون وجودها، أو تذكر سحنها المنشطرة بين الوجوه.
أمسكُ صدري بشدة، آخذهُ بقوةٍ كمن ينتزعُ قميصًا بقدهِ من جسدِ صاحبه؛ لأكتب بإفناءِ بعضي ثمنًا للخلود، أن يبقى مِني جسدٌ في الكلماتِ، ويرحلَ مِنّي جسدٌ في الملماتِ وقد صيّرت مقدودًا للغايةِ القصوى.
أنومُ، مغلقًا بابَ قلبي، ودواوين لغتي؛ لتجفل الذاكرةُ في وقوفها الطويل على بابي، يا باب الفراغاتِ الندية أقبل إلي أُقبلك، وتحجبني عن الآخرين.
هل أنادي ذاتيّ كرةً أخرى، ولمّا يصل صوتي الأوّل؛ مضى تاريخٌ طويل ولم يصل، أصل جرحي بتلمسه، بالحنو عليهِ؛ و يتضرم يبوسهُ عن انفتاقِ وجعٍ لا أعيه، ولا أعبأ إن بقيت نازفًا أبدًا، وجسدي يطالعُ الشمس متوجهًا لها كل ما توجهت، يصطحبُ ضياءها أين ما ذهبت تاركًا الذاكرة والنسيان للفناء والرحيّل يهشمهما ببطء تارةً، وبسرعة البرق تارة أخرى.
يا امام الصمت العلوي، ويا زمن الصبابات المرتدة، ويا حبر الكتابة المعتمة، ويا ربيع الفراغات المتاهة، يا عاهل آلام العالمين وطنت كبدك النجوم فولدت أكوانك العظمى لغة تحيك وجهك رداءً للحب الصدق، وحبرًا لجسدك الجديد؛ جسدُ الصمتِ والغيوم يتفتق عن انهمارٍ ومطر، وشعرٍ عميق وبشرى وبشر وحياة وممات يا سيد الحافةِ العلويةِ للانتهاء، قد قرّت عيونُ كلماتك تكشف البرايا بين يديك بالمعنى المُعنى، وبالشعر المحاك يحكي قلبك الحُب.
هذهِ يدي مستقر النهايةِ وبابُ البدايةِ بها أعمل الهجرَ، وبها أعمل الوجد واللقاءاتِ، وبها أتحرق للوصل والاتصال ولمّا أنل غاياتي من القرب ومن البعد؛ حتى أكتب بمحض، وأكون بمحض الكائن اللغوي الأوّل شجرةً للحُبّ والفناء على حد السواء ، يا عاهل آلام العالمين انطق اسمائك الجديدة جسدًا للمحامدِ والجراحِ، و غيمًا للقاءات الفلاح، وقد أخذت بغيتك التي تشتهي، وقربك البعد الذي يرويك مستقر الطفولةِ والعبث.
أعبثُ بشعر رأسي، أحرك أخامص المعنى ليستقيم ضحاكًا و بسامًا وإذا بي عائدًا لما وجدتُ جديدًا فرؤية القلب تخطف الحدّ لما وراءه. أنادي صوتي، اسمائي، غيومي، احلامي؛ وأوطاني ؛ هذا قلبي المستقر، وهذا أنا الكائن الجديد المتحد .
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...