هممتُ بالصمتِ فتفتقت يدي عن كتابةٍ عنقاء، أحلق بعيدًا عنّي لأقرّ في عيونِ الجُمل، وأحلق في نفوسٍ قارئة. ما يجعلني جلودًا على الكتابةِ أنّي لم أعرف غيرها سلوى ولا حياة ولم تستطع رئتي أن تتنفس عداها، وعندما تتحرك يدي لأكتبَ ألحظ حركةً فيَّ بكل عضوٍ وجارحة، وإحساسًا لقعرٍ بعيدٍ في الذات!
عرفتُ في كتابتي انطواءً لقراءاتٍ، ومعانٍ مُنوعة؛ تشبه شسوعي وبعدي… واذا ما رأيتُ جسدي لم يصل بصري لحده ولا غايته أبدًا فإن شاءَ امتدَ وإن شاء انقبض ليكونَ حبةَ أرز صغيرة، وبين هذهِ التحولات الآنية أنظرُ لوجهي كيف يصبح جبلاً شاخصًا تستقي مِنه لغتي رونقها، ويبث دمي في كلماتي ! عرفتُ في كتابتي اندلاق جسدي بين السطور ومن فوهة أقلامي كنتُ أرى جسدي ينثر بين الصفحات ويقيم أود الكلمات لتستقيمَ حياةً وبقاءً ولا يبقى مِني شيءٌ سوى ما كتبت!
ذابت شمعة، خفت قلمي قليلاً عن الكلام، وفي عتمةٍ ألصقتني بومضةٍ صغيرة؛ ترقرق مِن فمي كلامٌ جديد…ناديتُ نفسي، لكن صوتي علق بعيدًا في المجهول، وقد عرفتُ صوتي عندما يسافر كيف يعود بوجهٍ وكيان آخر… لأتحوّل؛ وأكون نسيًا منسيًا! أين عُمري الذي ضاع في فلوات الصقيع هل ران في البعدِ، ثمّ أشدُ لصوتِ الأقلام على الأوراق؛ كيف أصبحت مرآتي الوحيدة!
أقلامي تشكلٌ آخر لأعضائي؛ لكلٍ مِنها نزواته الخاصة، ورغباته؛ وأفكاره؛ أشاركها كتابةً نصّ؛ وأمنع بعضها أحيانًا أبقي قلمًا يجري أثناء ركوني للنوم، وآخر عند اشتغالي في كتابةٍ أخرى، ومراتٍ عندما أهمّ كتّابًا لقصيدةٍ فأتدفق في قولٍ آخر… تختلط كلماتي ثم يعاد ترتيب كل شيء، ويستقيم جسد القصيدةِ في نمو وروّاح !
لمستُ شِغاف قلبي، وعلقت بيدي كلماتٌ قد نطقت بها وأصبحت أنقى من معرفةِ معناها؛ محضُ ماءٍ زلالٍ يُنعشني، لعلّ شربة شاي الآن أحلى من الدنيا والذاكرة، كل أيامي قد خُزنت في رشفةٍ، وكل حياتي قد استقامت على هدى لحظاتٍ يسيرة، بالكاد أجاوز لحظاتي القصيرة التي تساوي العالم ومن فيه… رشفةُ شاي تأخذُ لبي في بخار الكأسِ يحلق بعيدًا ثم يعود لرشفةٍ أخرى؛ وما بين الرشفات تُصاغ حياتي!
لا أتذكر شيئًا، ومع ذا أحس بالحُبّ يهز جسدي، ويعمر لغتي، ويجعل من اسئلتي أجنحة أترحل بها للتفاصيل، وأنظر بها للأشياء بعيون جديدة، وبصائر مختلفة؛ تكشفُ ليّ عن عريها الأوّل والتالي،
تفاصيلي قد آبت إليّ فصير العُري الذي أحفل بهِ خمس وسبعون طبقةٍ في كل مِنها ذاكرة وأزياء وبيوت وأوطان ومعانٍ خُلص؛ وكل ما ذهبت بعيدًا أتلمس خيطًا رفيعًا يصطحبني لآخر أحلامي وأوهامي !!! أشدُ الخيط شيئًا فشيئًا أحيانًا يسحبُ لي كواكب قد انطفأ ضوءها وأحيانًا يهبني شموسًا يحرق الكواكب ضوئها وما بينهما لا تستقل يدي عن غزل الكلام الجديد !
كنتُ ولا زلتُ وحيدًا إلا من لغتي، قليلاً من الصمت كان يكفيني ويقيمُ أودّ جرحي…كلما تدفق أصبحتُ أكثر جمالاً؛ وكلما توقفتُ وجدت جسدي إلى الفراغ أقرب! هذهِ الصفحات تجري لمستقرٍ لها في غسقي، بدميّ يضعُ الكلام أوزارهُ، وتتقد أحلامي شمسًا للأرضِ التي تخيطُ وجهي في فلتاتها …أعمرُ ذكري بحبٍ هزّ أركاني فساقط جسدي عذوقَ الثمار والحياة!
كلما كتبتُ تدفق قلمي بالوجوهِ والذكريات لا أدري أيهما الذي يخرج من الآخر، وأيهما الذي يسبق الآخر؛ لأنهما بعيدان في الانصهار ببعضهما .
تذكرتُ حزني وانفلق جناني كان جسدي عيون الكلام والرحيل ! أجسُ ظهري فقرة فقرة؛ أتلمسُ خارطةَ كلام الجبال، كيف أكتبُ طباقًا وأضع كل فاصلةٍ موضعها الذي أرغب، لتتهيأ القصيدة للغناء.
أذرو حياتي راضيًا للكائناتِ التي لن تفهمني أبدًا، مُقبلاً على البعدِ بملء إرادتي، وقد علمتُ أن حيل البعد والقرب ما عادت تُعمل فيّ أثرًا، فقد طال بي الزمانُ الذي أكون بهِ قرب من أحبهم لكنّي لا أجاوز هذا الحد لما بعده، ولو اقتربتُ قيد انملةٍ التصقت ولمست وعشتُ تفاصيل أخرى لكنّي أقبل أن أكون بحدّ هذه المسافة لا أبعد مِني!
قلبي وطنُ كلماتي المسافرة، تعبر على الأوطان والقلوب الأخرى؛ قلبي مرساةُ ذاكرتي المسفرة على الفلوات بمطر الربيع، أرغب بجسد أحببته لكن جسدي العالم، وأود السفر إلى المطر وجسدي باب الغيم إلى الأرض ما أشد اغترابي، وبعدي مع أني الأقرب .
وددتُ البكاءَ بشدةٍ ولم تطاوعني عيوني، أحسست بتفاصيلي تريد الانهمار لكني أصبحت صحراءً اليوم ليس فيها سوى الرمل، أنظر ليدي كيف تتدفق لممًا وأسال نفسي هل بقيّ مِني ما أكتبه؟ وحيدًا منذ ليلتي الأولى، كان قلبي في القمر؛ أُرقب من بعيدٍ ولا أوعى وفيّ ينطوي الحُس الأكبر، يا عاهل آلام العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...