حتى الذاكرة تفنى











حتى الذاكرة تفنى.. ذا ما أكررهُ في الطريقِ الطويل إليّ، الطريق التي تشعبت ولم أحسَ حتى صرتُ أرى صوراً لما مضى، ما خشيتُ ظهوره بانَ، وصارت ذاكرتي مُجسمةً أراها شاخصة في كلِ مكانٍ، وبتجلي الأحداث عندما تجيء. أسيرُ، أجر معي هذا الحزن ويكتبني على وجه البسيطة. أسيرُ وأرى الأصوات التي لم أسمعها منذ زمنٍ بعيد، وأسمع ما رأيتهُ صوتاً يسكنني ككلماتٍ و معانٍ فارقة. يبين الفارقُ بين الأشياء عندما أفقدها، ويظهرُ فاصل طويل بحجمِ المدى يبين حجم الحُب الذي كان، و الحُب اليوم. وحيداً تعرفني الطرق التي تعبرني كل مساء كنصٍ أكتبهُ، وكقصيدةٍ تذكرتها، ونسيتُ أن أكتبها. تكتبُ أعضائيَّ هذه الحال، فيشرق وجهي في كل صباح أصافحُ به الضياء، و يبانُ ما مضى في جسدِ ما يأتي. ألقاك، ولم تفترق أجسادنا يوماً إذ ينبضُ بيّ دمك، وينبضُ بك دمي. يا وجهي المُبتسم للحياة، يا حلميّ الذي كتبتهُ ونمى حتى وعى بيّ كل مسألة يعيشها.
حتى الذاكرة تفنى .. يضيع ما صار في زحامِ الحاضر، في الترقب يجر المُستقبل إلي رغماً عن التوقف. يبقى الوفاءُ سمةً أعرفُ بها، لكني لم أعد أنتظر أحداً، فنيت ذكرياتي، انقرض من عرفتُ ، لم أعد أعرف أحداً. الذاكرة تفني الذاكرة، ذاكرتي التي تصرُ على شطر كل من تذكرني به، أراهُ نصفَ وجهٍ، أسمعهُ نصفَ صوتٍ، ونصفَ ذكرى .. ونصفَ لحظةٍ مرت، ولم أدري ما هي؛ هذه صنيعة الاكتضاض ؛ أن أشعرَ لأقصايّ ، حتى أعي ما وراء الوجوه؛ حزنها الذي يسكنني .. والحزنُ ينسي . لستُ قادراً على سماعِ شيءٍ غير قلبي، لستُ قادراً على أن أرى في الوجودِ غير جسدي، أنصتُ إلي لغةً للحزن، جسديّ عينُ " العالم" أرى بها كل كائنٍ ينمو في جسدي، ويعيشُ على دمي. يبقى الناسُ في صمتٍ رغم كل ما يثرثون به، عندما أحدثهم عن " ما هم" بينما ما زالوا بعضاً من أحلامٍ وأفكارٍ أخرى، من أجسادٍ و قلوب أخرى. يا عاهل آلام العالمين تترتب الذكريات فتحسُ بآلامِ الكائنات؛ لكلٍ مساحة يبكي بها؛ لكل مساحة يشكي بها، ولكل قلب ينبض بقلبك الكبير ، تسمع وتعيش ما حصل. يبقى الحُب بعد كل ذلك دليلاً إلي، ينطوي بعيداً عني، و يبدأ من يدي التي تكتبهُ . عندما تفنى الذاكرة.. أقرأُ ما كتبت فأنسى فيمن كتبتُ؛ لكني أقرأني مرات ومرات في كل مرّة بطريقةٍ جديدة؛ أعي فيها حُزني؛ نفسي ؛ لأسيرَ ؛ لأكون وجهةً و واجهة. أذهبُ للمرآة لأراني الشاب الذي يعود إلى طفولته، وأرى الشيب الذي يعلو راسي؛ فأعلمُ أثرَ النسيان عليّ ؛ النسيان الذي بدأهُ رأسيّ، وصدقته يديّ وذاكرتي، ونسيتهُ أعضائي. تصالحتُ مع الحياة لم نعد نتشاد منذ وقت طويل، وصرنا نجلسُ سوياً ؛ نتبادل النكات والحديث ويفيدُ كل منا من الآخر.. وأستكشفُ وجودها فيَّ، وتستكشفُ وجوديّ بها.

تعليقات