قلب الزهور .







جئتُ.. وطويت المدائن عن عينيّ، غابت الطرق، ذابت مسالك كنتُ أعبرها في ذكراها فلم أعد أراها. هبطتُ للأرضِ، ورفعت عنها في آنٍ، هبطتُ وهي خاليّة مني؛ أفتشُ جسدي ؛ أبحثُ عن بقايا الذكريات، فلا أجدُ شيئاً، وأرى بعين من لم يرى شيئاً.. ومن لم يعبئ بشيء أيضاً؛ لأنه رأى ما يغنيه عن الرؤية، رفعتُ عن الأرض، وأنا سائر فيها!. أرى الماء الذي يصب على يدي يخلط بها، فنشتركُ الحنين إلى المجهول البعيد.. كلانا صامت، كلانا مملوء بالضجيج ، يالَ حنين الماء ما أدفقه، وما أكبره. أصرخُ بي، فيرتد صوتُ يحطم بعض المعالم في صدري، لا أدري من شيدها، ولا أدري أين هي مني الآن .. أصرخُ بي، ولا أسمع صوتاً؛ هكذا صارَ صوتي صمتاً.. وصارَ صمتي صمت آخر لا يعرفهُ أحد سواي. انفضضتُ عني، ونفضتُ بعض الغبار على كتفي السامق، أتسلقُ له جبالاً عاليّة لأصله ولا أصل .. إن كتفي بعيد ، بعيد . يتساقط مني أوراق للماضي، كائنات كنتُ أحبها ولا زلت؛ إلا أنها فضلت القاعَ موطناً.. والمُكابرة لغة تبعدها عني ، لم أعد أرى، استعرتُ ألاف العيون لترى ولم أرى، ضاع من مضى، ولم يبقى لهم في القلب إلا أثر ضئيــل يهتز أحياناً وينتحب .
يجمع الجسدُ المنفض على غيرِ الهيئة التي كان عليها، وعلى غير الذكرى التي كان عليها، نسيتُ وما نسيت، وتذكرت وما تذكرتُ شيئاً؛ أن تعرفَ بعد أن تغيرت، هذا يعني أنك تعرفُ أمراً آخر لم تكن لتعرفه وأنت مختلف عنك الآن؛ أراقبُ جسدي، و استكشفُ تفاصيله، ولا أعرفني !
يأتي يوم آخر يبعدني عن كثيرٍ من الكائنات، ويبقي الحُب جسراً من قلبي يعبر منه العابرون، في آخر الجسر أبقي جالساً أنتظر، ومع انتظاري لا أعرفُ أحداً من القادمين، تزداد الهوة بيني وبين كائناتٍ أخرى.. حتى أكونُ في مكان لا يصلُ إليه مكان آخر.. ولا ذكرى تحيي فيه حياة أخرى تتراقصُ أمام عيني كطفلةٍ حلوة في يوم العيد ، ولا كراقصين يقومون بذلك كعمل يأكلون منه رغيفاً فأزيدهم من قلبي أُغنية لا يتوقفون بعدها أبدا .
أعودُ إليّ، للأزهار المتفتحة  تعطر فؤادي، للمروج الخضراء تظللني من قيضِ ذكرى لم أعيها بعد ، وللشلالات المنسابة تغسلُ عنيّ الآلام التي علقت بي من مسيري المظني في كل يوم..
سرتُ، وسارت إليّ الأشياء، أتوقفُ في مسيري، وفي توقفي أزدادُ مسيراً، فكل شيء يعود ويحيا وينمو أمام عيني.
أغلقُ عيني، وأرى العالم في صدري نمى، الذكرى تشيدُ في قلبي موطناً، الجمال يرتع في جنباته الكثيرة، ويعكسُ على وجهيّ الواجهة .. والسبيل إلي.
جئتُ... وما جئتُ ، ذبلت طرق هجرتها، تلاشت مُدن كنت أقطنها، ورحلَ صحبة كانوا معي ، لم يتبقى مني إلا طيــف يمر بين المشيدات، يذكر بما مضى، ولا يعرفُ أي ماضٍ هو، إلا أنه حزيـن، حزين .
يدق قلبي، ويفتح أبوابه للزائرين، يأتونَ خِفافاً ويغدونَ سماناً بطانا .
يدق قلبي، وينساب على يدي، أكتبُ، وأسمع في الحروف نبضي؛ حياتي بين الكلمات، وذكرياتي التي لا تمتُ لي بأي صلة.
يدق قلبي ، لأتوقف عما عداه، أتأمله، وأراني في مراياهُ جميلا .
أسكبُ الماء الذي صار رداءً ليّ، وأرى دمي كيف يتغلغل في الماء، و تفيء الحُمرة علينا . ورود تطلعُ من أناملي، وأكتبُ بها، تنتشر بين دفاتي؛ حقول كلماتي لأجيء من سبيل عرفتهُ ولم أعرفه إنه ؛ الحُب  !.

تعليقات