[ انهماك في الفراغ ]






لم يسبق لصوته أن كان بارداً هكذا، كان مليئاً بالحياة والذكريات التي تعيدني للتفكر في نفسيّ، لكني رأيتهُ اليوم على ما لم أعتده، لقد كانَ خالياً من كل شيء، وراح الفراغُ يطل من وجهه المقطب.. كأن شيئاً أخذ بالحزن بعيداً خلفَ الأماكن التي اعتدت على رؤيته فيها. مُذ شهرين كنا نتناقش عن آلية مناسبة للعيش في هذه المدينة التي انتقلنا إليها مؤخراً للبحث عن عمل آخر غير مناقشة كل شيء، لكننا لم نعرف أبداً من أين نبدأ، وما هي السبل التي يجب علينا أن نقطعها لنصل للمرّاد، لقد كانت هذه المدينة مكاناً يحملُ دوراتنا في النقاش والسفسطة إلى أن أطل علينا بارق أمل من حديث أحد الأصدقاء عن فرصة عمل قرأ عنها في الصحيفة لمحاسب في شركة قريبة من المنطقة التي نسكنُ فيها، ذهب خالد بأوراقه إلى الشركة متهندماً بأحسن الثياب، مُشرقاً، ومستبشراً، لقد مَلّ كثيراً من البقاء في الشقة الصغيرة، وملّ من انتصاراته الزائفة التي حققها في الشطرنج، وألعاب الورق، والجمل المتقاطعة، خرجَ من الباب، ورمى كل ذلك خلفه، وبدأ في استشراف واقع جديد يعيشه، واقع جميل يخرجه من كومة الذكريات والورق. في سيارة الأجرة دارت في عقله كثير من الأفكار حول الأسئلة وماهيته، وبدا شيء من الرعب يتسلل إليه. وصل إلى الشركة، وصعد إلى الدور الثالث، إلى حيث مكتب منزوٍ في آخر الممر، لقد بدا مُهملاً بشكل ما، وأوراق لم يستطع قراءاتها علقت على بابه، استيقظ من شعوره هذا، بعد خروج الموظف المختص من الغرفة قائلاً بماذا يمكنني خدمتك؟ ، رد : الوظيفة.. قرأت عنها في الجريدة هذا ما قاله، الموظف : تفضل . وبعد انتظار قليل طويل طلب الموظف الأوراق والشهادات دون أن يُجري أي شيء.. كل ما سأل عنه الاسم، والنقاش حول بعض الهويات. لقد كان الأمر بهذه السهولة، عاد إلى مسكنه مستبشراً، لكن الرد كان سريعاً فقد وصلته رسالة نصية بعدم صلاحيته للعمل. لقد كانت رسالة عودته إلى حاله السابقة.. حالة الضياع، والانهماك في كثير من الأشياء التي لا تقود لأي شيء.. فقط الوقت يمضي، واليأس يكبر، والحياة تسرع، وتنسحب من حياته أمام عينيه، لكنه لا يقدر على فعل غير المراقبة، رؤية الأمور كيف تمضي من أمامه ثم قد تعود ولا تعود. كنتُ منهمكاً في الكتابة، فهذا ما أحسنتُ القيام به في أيِ ظرف أو مدلهمه، كتبتُ عنه كثيراً، عن أحلامه، وضياعه، عن الحُب الذي سكنه ثم رحل لكنه لم يكن يستطيب ذلك كثيراً لقد كان يرى نفسه مكشوفاً في نصوصي التي كتبتها، وطالما كان يحاول جاهداً أن يخفي ذاته عن الآخرين، ذاته التي كانت عُريانة أمامي. صوته البارد، عبرَ قلبيّ، وراح يجمد الأسئلة فيه، لم يبقى ما نقلق عليه ، فقد اتفقنا على نسيان كل ذلك ، ورغم أن النسيان يُذكرنا إلا أننا ما زلنا في ذات المواطن، نبحث، ونحاول السؤال من جديد عما سكناهُ، وما سكننا.. وراح يشي بالكثير، عندما طل الجفاء على قلبيّ، هرعتُ باستنكاره، ورحت أنكب على الكتابة، وأرسل رسائليّ إليه: لم تكن الرحلة التي خضناها بذلك الجمال عندما أرى كل موقف حدّث فيها، لم يكن سفراً جيداً بحال عندما يكون مُفرغاً من المواقف التي لم تكن جيدة، لكنها أجمل رحلة يمكن أن يقوم بها مسافر عندما تجتمع تلك التفاصيل للوحة جمال تعكس علينا الجانب الجميل من العالم، والجانب الأجمل من الحب.

تعليقات