ينسحبُ الشاطئ من أمام عيني،
وأسمعُ لصوتِ خطواته وقراً في صدري؛ حلَ الوقتُ الذي يذكرني.. هذا الارتداد الذي
يشبعني بما كان، ويملئني بما سيكون، قليلا مِني يضيع، وقليل مني يلتحم.. ويصيرُ
كتلةً واحدة، قلعة واحدة تمنعني من الشرود، والتذكر.
مُذ غابت أثارك القيمة ، همت على
وجهي باحثاً عني، توالت الاكتشافات التي تثبتُ ضياعيّ عن تفاصيلي في كل مكان ، أنا
بعيد جِداً رغمَ أني قريب.
لم يدم شعوري كثيراً ، سرعان ما
أمتلئ بأيِ شعور أُحس به، فلا يعودُ مؤثراً كما كان، حتى يتلاشى شيئاً فشياً، أو
يكون ذاتاً أخرى . لقد ملني الفقد، ومللتهُ، بيننا نفرة شديدة ؛ لا نكاد نجتمعُ ،
ولا نتوافق على أيِ شيء، كل مِنا مُتصلب اتجاه الآخر ولا يرضى به، لقد تضخم هذا
الخلاف والآن أنا لا أعرفُ وداعاً أو فراقا، ولم يعد للكائنات تلك القيمة التي تستطيع
أن تستحوذ عليها، قلبيّ بدل كل الطرق المُباشرة واليسيرة وأصبح الوصولُ إليّ
مُعقداً حتى أني لا أعرفُ سبيلاً يقود إلي.
مضت السنوات الثلاثة، والذي نمى
فيها هو علاقتي بباب غرفتي، وبالأزقة التي أركنُ مركبتي عليها عندما أذهب للجامعة،
أو أعود إليها لأيِ سببٍ كان، أحياناً كان يزاحم هذه العلاقة أراضٍ بالقرب من
المبنى الجامعي حيثُ تجتمع سيارات الطلاب هناك بعد أن تكتض الأماكن و لا تعودُ
قادرةً على استيعاب كم أكبر من المُنتجات البشرية. وعند عودتي إلى الغرفة تستقبلني
جدرانها.. آثارها العميقة التي خلفها كُل ماض منها ليثبتَ وجوداً لهُ ، لا يعرفهُ
به أحد ..كثيرة الأشياء الموجودة، والقريبة جداً، لكنها رغم ذلك غير موجودة لأنّ
الناس لا يعونَ وجودها، وعندما لا يستطيعون ذلك ، فهم غير قادرين على فهم أدوارها
وما تؤثر فيه إلا عندما تغيّب ، لذا يبكي الناسُ كثيراً في المآتم، ومجالس العزاء،
أنهم يعلمون بعد فوات الأوان من كان يحبهم، ومن لا يحبهم ، ويدركون الأثر الذي
خلفه من رحلَ في قلوبهم، وما الذي سيفعله رحيله عن " العالم" فيهم، رغم
كل ذلك يتناسون، ويعيدون الدوران في العجلة، يخوضون التجارب، ويكررونها، إنهم لا
يختلفون كثيراً عن صغار [الهمستر ] الذين يستمرون في الدوران في الدواليب التي لا
تنتج شيئاً ، أنها تبعد عنهم بعض الملل وحسب ، بعض الناس يتطور بشكل ما ويصبح
العجلة، وقليل يخرج عن العجلة، وينطلق في آفاق كبيرة تُعرفه نفسه، وتسعى بهِ في
مداهِ.. إلى مدى ما يمرُ إليه، فينظر بقلبه الدروب التي قرر شقها قبل المسير فيها،
ويحسُ بكل عابرٍ فيها قبل أن يعبرها أحد، ويتذكر من كان قريباً منهُ قبل أن تجمعه
المواقف، أو الأسباب.
يحكي عنيّ نور منسدل على يديّ..
بتُ لا أعرفُ أي جزءٍ يضيءُ مني ليبدأ من الضوء، وأين النور مني عندما أغيب طويلاً
حتى أجيء متهللاً وسط الجموع التي تقتبسُ من وجهيّ هويةً تعرفُ عنها.
تترقرق ذاكرة في صدري، وأحنُ إلى
طريقِ العودة المطوي فيّ ، أبسطُ الطريق، ويحلُ السفـــر الطويل إلى نفسي .
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...