مُذ رحلتَ، صار للعالم وجه آخر، لم
أكن أعرفهُ، تغيرتُ للحد الذي أصبحتُ فيه خُبزاً تقتاتُ عليّه بعض الكائنات التي فقدت
كُل شيءٍ إلا رغبتها بالتنفس ؛ أن تبقى عالةً، تعتاشُ على جسدي، وتلتحفُ انعكاسي على
الأشياء.
مُذ رحلتَ، وأنا أكتبُ لك، لقد بدأتُ
ذلك قبل انضمامي للمدرسة، كنتَ تظللُ ذاكرتي بالجمال الذي أستقي منهُ رؤية وخيالاً
جامحاً، كنت أحادثك في نفسي، وذهني ما فتأت عن صورتك لحظة، حتى رأيتُ الناس يمثلوني
بك ويشبهون ، عندما كبِرت، ورثتُ اهتماماتك، وأمعنت النظر فيما أمرّت بخطه، بأوراقك،
بما خلفته لنا، وكان ذلك غذاءً تستمدُ منه روحيّ قوةً وشموخاً، تمرُ الأيام لينمو حبك
في صدري، ويزداد، وفي كل مرّة أتنفسُ فيها، يرتد الزفير بشيء يدمجني بِك، فنصيرُ شيئاً
واحداً. لقد كنتُ أكتبك وكراستي الغيِّم، وقلمي الأرضُ التي أسعى عليها، فكل ما يَمرُ
يحرك شجناً...وذكرى في قلبي.
لقد رحلتَ، في زمنٍ من الطفولة يصعبُ
على الآخرين الوعي به، لكن رغم أني لا أتذكرُ إلا أشياءَ يسيره جلها عنك، كانت تكبر
بأحاديثَ المجالسِ ، بالآثار التي خلفتها، وأصبحت تدلُ عليك وعلينا، حتى كانت حياة
مُتكاملة تنبتُ صورتك بين جنبات أماكننا العليِّة، وأوقاتنا العظيمة. لقد كنتَ تسقي
الذاكرات بعبقٍ منك، يُزكيها، ويصبُ عليها من مداد حكمتك الكثير.
مُذ رحلت يا جدي، والفراغ يزداد، والصمت
في نماء، صار دمك الذي يضجُ بيّ، ينتفضُ بي؛ لأنطق بكلماتك، برؤاك، ما كنتُ تؤمن به،
وصرتُ أراه متجسداً في نفسي، وفي صوتيّ الذي يصلني بك.
مُذ رحلت، تغيرت كل الأشياء حولنا،
انكمشت، واتخذت لها أشكال جديدة تقاوم تكاليفَ الحياة المريرة، لقد كنتَ وطناً لكثير
من الكائنات التي تُعود إليك، وتستقي منك الهُدى على الطريـق.
مُذ رحلتَ، فتحتُ الأبواب التي لم
يجرأ على الاقترابِ مِنها أحد، لقد خُلعت الأبواب، وصارَ للناس أن تدخلَ قلبيّ بلا
نظامٍ وحَد، ليعيشوا عليه ما تبقى من رمـق الأيام التي لا يعرفونَ ما تُخفيه
" لهم" ، لقد صرتُ وطناً من غير أن أدري، محيت كل الحدود التي تُبعد عني.
وصارت الأبوابُ وقوداً للمدافئ التي تعرف دميّ النابض بك، وصوتي السبيل إليك.
لقد رحلت، وتركتَ نفسك في نفسي. مررت
بالساحات التي مررت بها، وعشتُ كل تجربةٍ خضتها، عرفتُ ما معنى أن تكونَ متفرداً، ووحيداً،
تحسستُ قوتي في أشد مواطن ضعفي، حكى ليّ الجسدُ انفلاقَ نفسيّ للنورِ الذي يصلُ بين
صوتي وذاكرتي... يطلعُ الفجر من يديّ، وأكتب للأيامِ قصة دمي الذي يعطي السنابلَ فرصةً
للعيش ؛ أن تكونَ خبزاً يعتاش عليه فئات من البشر، لا تعرفُ بعضها إلا بطعم هذا الخبز
الذي نمى في قلبي .
رحلتَ، وعلت أصوات كثيرة بعدك، رغم
ذلك، لم أعرف صوت غير صوتك، كل صوتٍ سمعتهُ هو صوتك أو بعض مِنه ، إن صوتك النقي ما
زالَ في حضورهِ، يقمعُ العتمة، ويسرع بالصباحِ في الأفئدة التي أحبتك، وجعلت منك دليلاً
لها...تستقي منهُ وتتزود.
رحلتَ، وتركت ليّ نفساً بين الكُتب
والأوراق، أُفتش عنها، وأتحسس عظمةً بين أشياء كثيرة لم يعبأ بها أحد غيريّ. الآن،
وما زلتُ شاباً صغيراً أرى رأسي وقد اشتعلَ شيباً، وأرى قلبيّ وقد اتسعَ ليملأ العالم
بما فيه من المتناقضات.
لقد رحلتَ، ورسخ مع الرحيل وجودك في
حياتي، فكنتَ أكثر الباقيات التي أعرفها، وبتُ أرى حياتي المكسوة بِك تسما باسمك، وتسمى
بك. موتك علمني من الأحياء في " العالم" ورحيلك مسار للقائي بذاتي، وتوحدي
بك.
يتجعدُ الجدار الذي أتكأت عليه فيما
مضى حُزناً عليك، يذبلُ، ويهشم في قلبيّ موضعاً ينطق بالأبجديات التي ولدت من فيكَ،
وباتت مُعجماً ينطق به لساني...وتشرأبُ منه أنهار قلبي الساقية.
ذاكرتي مُعجم العالم المبسوط على صدري،
تطلع التفاصيلُ منها لوجهة الجمال في المسيّر مني إلي.
أكشفُ دميّ للمارين، ينهشونه، ويتركون
أثاراً مني على أفواههم، وأتدثر بعباءتك لأقي جسدي بعض الذكريات المارة من أشد الأماكن
قُرباً، وأكثرها جهلاً بيّ الآن.
أتدثر بعباءتك وتقعُ على جلديّ بعض
ذكرياتك الحلوة، قصائدك، ومسيرك الذي أمضى لهُ وقعاً فيَّ...يُذكرني.
أنهضُ من على السباخ التي تصيرُ مرجاناً
خضراء، وأرى ودياناً وماء، وشيء من وجهيّ على ضفة " الواحة" القريبة، تسعى
ليّ، وتشتقُ مكاناً من قلبيّ لينبضَ بالربيع، ولأكون قلبَ الربيع الذي نبضَ من فؤادك
أولَ مرّة، ونمى في الأماكن التي سعت رفيعة بالمدى لسعيك إليها.
أعود للأرض التي حويتها، وأستمع إليّ
لألقاك بصورة أخرى أفهم فيها نفسي، ويجلو العاهل فيّ بعض غبش الذكريات التي أرادت مقاماً
في جسدي.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...