ُممزق عـــادَ .




أُمزقُ بعضاً من ذكرياتيّ، وأذرها للمدى؛ لأرى وجهي النامي في الأشياء، كيف يبدو؟، لغة تطلعُ من ضلعيّ ...تمزقُ فيَّ التوق ؛ فلا أعود مع الطرقِ التي نمت مني. ممزق بين أشلائي، أشدُ الرحال للصحراء التي صارت جنةً لا أدري أيني في الممُزق بيّ... يضلُ الوطن ، يبدلُ سعيّه، لوقتٍ يبدد الوحشةَ في صدري، الوحشة التي صارت وطناً تؤبُ منه إلى جسدي الذي ينطق بالأسماء التي أحبها، وانتمى لها بعد إذ اختارته أرضاً وانتماءات.
أُمزقُ بعضاً من ذكرياتي، وأرى في البسيطة صورتي، كيف أطلعُ كشجرةٍ مُعمرّة في صدورٍ عديدة، ثم أسمعُ نبضيّ في قلوبٍ وأفواه أخرى؛ النابضُ في قلوب أخرى يعود من حيث لا أدري، يسكبُ الليل أطرافه فتتهادى نجومه على عضدي، وأرى في المشرقين طفلاً ينزوي من ظلي ، و يأفل من الأماكن التي غبتُ عنها، أهيمُ بحثاً عن الآفلين لأطلعَ على القمم التي أشرقتُ منها ؛ تهبطُ يديّ للأرض، تحملُ شيئاً من حقولها وغاباتها، شيئاً من " ذكريات" العاشقين الذين مروا عليها، وأشياءَ نسيت من تكون حين اختلط بعضها بالبعض الآخر... أرى بعينيّ ولا أستطيع الرؤية لم تشرق الشمس بعد ؛ لأنها تطلعُ من وجهي؛ تطلعُ من وجهيّ ذاكرات كثيرة، وتشرق من عيني مجرات وكواكب ترى في لمعةٍ تضيء دروبَ الفِكر في أَمدي . 
أحكي للرمال قصتي وتنسابُ من على يدي أيام تتحسس يدي الكاتبة، أحكي للرمال، وتخلدُ إلى الأرض التي طلعت منها، ذاكرة تختلطُ بالرمال، وتسعى لتغطيّ ما جاهرتُ به، وخرجَ يُعرف بيّ. عدتُ للرمال لتنتعشَ ذاكرة المُحبين عليها، قصائدهم التي نمت منها حدائق، وخضرة، وجمال يغطي آلام تعيد صداها الريح كلما أتت عادت موائد الملح على أديم الرمال . تُحَمَّل راحلتي من بعضِ أطراف المكان، ليجيء للمكان الذي أَقصدهُ، ويسعى لي في الطرق التي أعبرها ، تنسجُ الأماكن من الأماكن...وتتخذُ لها وجهاً بينَ كل الوجوه ليعرفها، صوت الألم في صدري خفت، لم يعد هناك أي صوت في صدري، صور تنثر هنا وهناك ؛ أصبحنا صوراً، ومقتطفاتٍ، لم تعد الحيّاة تصفُ وجودنا..وصار كل جزءٍ منا ممتد ؛ بلغته وصمته ؛ ليعبرَ، ويحكي عنا. فقدت الأفواهُ قدراتها على التعبير، وصارت الأياديّ تحكي، أكتبُ جسديّ، ويورقُ على دفاتريّ، وكلماتي ؛ حلمي . 
أُمزق عباءتي، ويشعُ نور من أطرافها ، يغيّبُ الليل الذي توشحته في غياهبَ " ذاكرةٍ" مرّت من هنا .. نمرُ خِفافاً من الأماكن التي رحلنا منها ؛ أنا وطيفيّ الماضي، نتسامرُ على الطرق التي جزت من نفسيّ ، ونضحك كثيراً، لتبكي .
أُمزقُ ردائيّ ... وتطلعُ المجرات من صدريّ، الساعي إليّ وصل إلى الأماكن التي "هجرتها" وبدأت تنتحبُ... يصلُ النحيّب بين المُدن التي بدلت أسمائها، وتتذكرُ ماراً لم تعرفه إلا بعدَ فوات الأوان.
أُمزقُ، وأُمزق، وتجتمع الممزقات لتنهضَ جسداً ينتمي ليّ، أرى الدروب التي نبضت بالحيّاة تتحولُ إلى مدنٍ جديدة... السائرُ إليّ، عادَ... عدتُ ، وعادَ صوتيّ ليُرد في المجالس التي هجرتها؛ المجالسُ التي جعلت مِني خالداً؛ لم أمت لكني بُدت غيريّ ؛ بدلت أحزانيّ عندما رأيتُ بطرق أخرى، ومن أماكن، ووسائل أخرى، أحزانيّ عادات لتكونَ على السدة التي اعتليتها، أصعدُ، وأتركُ خلفيّ ما ذروته، مكان ، لما يصيرُ . أنبعُ من نهر الجراحاتِ التي نزفتها؛فلا أُحس بالآلام التي سكنت قلبي، بُدلت الآلام إلى أفراحٍ؛ أنا أحتفلُ كل يوم بمئات الأمور التي حدثت به . 
أصبح الأصدقاءُ أشجاراً في بسطة الفؤاد، وأضحى الأحبابُ ثماراً في كل الرده، أوزعُ على الجهات، أنا جهة للضائعين، يدلهم عليّ كل فراغٍ سعوا فيه، وكل حزن ذابَ وتوحد في نفوسهم وأختلط بالهواء، هذا التناقل، يعيدُ للأشياء صورها التي يجب أن تكونَ عليها، انطباعات الناس التي توارثوها تعود مع الأبواب التي خلعت، وعادت لأشجارها، لم يعد للمدينة التي رحلتُ منها أبواب، لقد نزع عنها كل ما يغطيها، ومع ذا ما زالَ سكانها يخفون الكثير خلفَ قلوبهم العُريانة، مدينة تنتمي للعراء، الكُل مكشوف فيها، وكل آتٍ إليها مكشوف، لقد كشفت صدريّ المجريّ، وذاتي العاهلية، فأحس سكانها بقيضٍ يحملُ قلوبهم إلى شتاءٍ لا أوبة منه، زفرةُّ الشتاء، نمّت في الأغصان التي تصلُ بين الأشجار وبعض الذكريات التي مَجها أصحابها لكنها ما زالت تُحكى عنهم، مؤلم أن يحكي عنك الكثير، بينما لا تستطيع أن تقول شيئاً، تتناسى ما كان، لكن الكائنات لا تفتأ على تذكيرك، حتى تجيء ذاكرة جديدة، وتتكونُ للأسماء، أن تكون حكاياتنا عناوينَ لا ندري من أصحابها، ومن قيّلت فيه، يستمرُ حديث الناس ويرضي نزقهم رغم كل الأردية التي يرتدونها لتقولَ إنهم ليسوا كذلك، تقول الكلمات الكثير ، وتتخذ لها في القلوب فسحةً تشيدُ فيها بعضاً مما يتركُ أثراً على النفس، ويذوب الناسُ في الكلمات، يختبئون خلفها، ليغطوا ما كشفَ منهم. 
كثيرة الأشياء التي مزقتها لتوجدَ لها مكان في ذاكرتيّ بعد إذ نُفيت، جميل أن تحمل ذاكرة مجتزأة لا تقبلُ إلا الجمال، وترمي بكل شيء آخر خارجها. نسيتُ بعض المتاعِ على الرمــال التي زُرتها ، فوجدتُ الرمالَ قد غابت في متاعي، وصُيِّرت كل حبة رمل، صورةً ناطقة، تُحملني المزيـد ؛ لأكتبَ،، وأسعى فيما كتبته. تلاشيتُ؛ لأوجدَ ؛ وضعتُ لأصل ؛ ونمّت على جذعي بعض الأسئلة التي مزقتها فكانت أجوابةً مُقنعة لأشد الأسئلة حيرةً، عدتُ إليّ ؛ لمكتبيّ السمواي ، للأرض التي خططتُ عليها أولَ كلماتي ، وللدفاتر التي تقرأني بين الفينات والأُخر ، أتأمل، وأسمعُ من طاولتي أحاديثَ كثيرة، نحيي حفلات شاي في مختلفِ الأوقات، ونستمر بالتحدث، وتكونُ أحاديثنا نصوصاً، و كلمات تقودُ كل قارئ إلى ذات المكتب الذي جمعنا، وإلى ذات الأصوات التي نطقنا بها، وصارت أبديةً عندما كتبت. 



تعليقات