أمضي إلي ؛ ذاك المدى
الذي يأفلُ قليلاً، ليسكنَ جواهر الأشياء. تنسحبُ المدينة شيئاً فشيئاً، ترفعُ
رِدائها؛ تكشفُ عن جسد الحُزن المغطى، ليلتحم بالرئات التي عجزت عن تنفسه. أمضي
إليّ، وأرى، انزواءً في الشوارع، و انكفاءً في المصابيح التي توقفت عن الغيّاب مُذ
أصبحت المدينة خواءً لا يفسرها الصدى.
أمضي إلي، وتمضي إلي
ذاكرة كظل مُمتد، يرافقني أينَ ما أكون، وينطقني بكلمات تنمو بذورها في أماكن شتى
لتجعلني جزءًا من تفاصيل كائنات كثيرة.
أمضي إلي، وينحسرُ
الماضي على ضفتي، طريق سلكته ليشقَ له طريق يعود فيه إلى صدري المجرة، لقلبي
العالم الكبير. أمضي إليّ، وأقلبُ في الصورِ، وجهَ الجراحات التي ما فتأت عن
الهطول؛ تسقي سُحن الفقراء، وتكون سجادةً للأرضِ، تقيها أشواكها. أركبُ الزوارق
التي تسيحُ في مِعصمي، تتلألأ في فسحة الدرب بعضُ الرمال التي بُعثت لتحطَ في قاعي
صففاً وعويلاً. تمشي الذكرياتُ الهوينا، وألقى في لظى الوقتِ، برداً، يريدُ أن
يكونَ وطناً، يريدُ أن يكونَ عباءةً تقينا الشاردات، القاتلات.
أمضي إلي، وأغيِّبُ
فتاتَ المواقف في قدمي، أسيرُ، وتسيرُ المدن إلى دربيّ الذي مشيتُ، لتزدانَ العيون
التي ما رأت إلا من بابِ الفؤاد..وإليّه، لتستكين الذاكرةُ التي عكرت بشهدِ
اللقاء؛ لتولدَ بين يديه بجسدٍ آخر، وبطرق أخرى في النظر.
عرفتُ الآن مَن يأتي،
ومن يغيّب في حضورهِ، ويزدادُ مقاماً، يقيمُ بالقلب جمالاً و صمتاً يأتي
بالراحلينَ الذين ابتعدوا وما ابتعدوا، وماتوا ، ليحيوا في الميادين...
شاخصاً، تفتشُ عنيّ
المكتوباتُ التي نسيتها، وتشيدُ أوطاناً لي لا أعرفها، تتسربُ التفاصيل في معترك
الوجع الذي ما عادَ وجعاً، وأسافرُ بين المدن التي بنيت من جسدي، أرقبُ يدي؛
الشجرة التي تنمو بها، وتتمددُ كثيراً، لتنطقَ بصوتي في المكان، في الضيّاع التي
هُجرت، وصارت في دجاي كلمات، يُغنيها العاشقون، ويبكيها المسافرون.
تتمايلُ سكك حتى لا
تقود لغاية، لينسى من عليها، إلى أي وجهةٍ ذهبوا، وإلى أي مكان هرعوا.
أمضي إلي، ويتناثر وجهك
على الأرض التي صارت مسقط رأس ما، فتطلعُ أعضائك على الأشجار التي تنمو سريعاً...
ويبثُ بعض جسدكَ في الهواء الذي يتنفسهُ العابرون، وينفسونه القاعدون، والقائمون.
تنكسُ المصابيح، ويسكبُ
ماءها، يراقُ على الفصول التي كتبتها يَدُ الريّح التي تُعري معالم كنا نعرفها، وما
عدنا نعرفها ؛ لأنها أصبحت غيرَ ما كانت، فصارت تنتمي لغير هذه الأماكن.
أنزلُ إلى ينبوعيّ،
وأشربُ، يتراء ليّ في الماء قلبيّ، وأعرفُ أن نبضه لغة، تقرأ انفراديّ إليك.
أنزلُ إلى ينبوعيّ،
وأشربُ، شَهد العيون التي بَكت حدَ النهاية.
أنزلُ إلى ينبوعيّ،
وأصبُ جسدي إليه، حتى يحارُ فينا الآخرُ أينا المنتهى فيه... أكتبُ مرّة، وتبعثُ
في المرّة مرات لم أكتبها إنما قرأها الكاتبون.
أكتبُ : غيّابك لظى،
وحيرةُّ تضرم في صدريّ، وأنت المطرُ الذي يسقي أرضيّ .
غيّابك حزنُّ، وعذاب
أشقاهُ، يخرجني عنيّ، فأتوهُ في صحراء العِتاب، ولا أقوى العتاب.
علمني غيّابك أن آتي مع
السُبل التي هجرتها، وأن أنظرَ إليك في المُختلف الذي لا يعرفك، صارت الأشياءُ
تفسرك، و الحياة كأنما وجهك في صعدٍ عديدة.
علمني غيّابك أن أعود
إلي، وأبحثُ في مكنوني عنك، عن التفاصيل التي أهملتها، ثم نمت، وصارت وجوهاً
للجمال.
جئتُ مع الأبواب التي
عادت أشجاراً تنبضُ في قلبيّ، وتزيدهُ خضرةً، وبهجة، ثم حكيتُ ، وأرتدَ صوتيّ في
قلوبٍ أخرى، ليجدَ لهُ أراضٍ ينمو بها، وذكريات تُشيد له فيها حباً عظيماً . يا
عاهل آلام العالمين، مضت الأيام، وما مضى الحُب المبتدئ مِنك، ولا الشوقُ المنساب
على الأفئدة التي أحبتك مُذ المرّة الأولى.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...